الإعلان الدستوري الفلسطيني: هل يعيد تشكيل المشهد السياسي بين غزة والضفة؟
في خضم النقاشات الإقليمية والدولية المكثفة حول مستقبل قطاع غزة، بما في ذلك المقترحات المتداولة بشأن نشر قوة دولية أو ترتيبات أمنية جديدة، شهدت الساحة الفلسطينية الداخلية تحولًا لافتًا في الأسابيع الأخيرة. هذا التحول جاء على إثر صدور إعلان دستوري جديد، أثار جدلاً واسعًا وأعاد إلى الواجهة التساؤلات المحورية حول بنية النظام السياسي الفلسطيني المستقبلي وآليات توحيد القرار بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

لطالما شكل الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية، الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، وقطاع غزة، الذي تديره حركة حماس منذ عام 2007، عقبة كأداء أمام تطلعات الشعب الفلسطيني نحو إقامة دولة موحدة ومستقلة. وقد أدت المحاولات المتكررة للمصالحة الوطنية إلى نتائج محدودة، مما ترك فراغًا دستوريًا وتشريعيًا يعتمد على قوانين أساسية مؤقتة وتفاهمات ظرفية. وفي ظل المستجدات الأخيرة، ولا سيما الحرب الدائرة في غزة وما تلاها من دعوات لإعادة هيكلة المشهد السياسي في القطاع، برزت الحاجة الملحة إلى رؤية فلسطينية موحدة لمرحلة «ما بعد الحرب».
الخلفية التاريخية والانقسام السياسي
يعود الانقسام العميق إلى انتخابات عام 2006 التشريعية التي فازت بها حركة حماس، وما تلاها من صراع في عام 2007 أدى إلى سيطرة الحركة على قطاع غزة، بينما حافظت حركة فتح والسلطة الفلسطينية على إدارتها للضفة الغربية. هذا الواقع المزدوج أفرز نظامين سياسيين وقانونيين منفصلين إلى حد كبير، مما أثر سلبًا على قدرة الفلسطينيين على تمثيل أنفسهم كوحدة واحدة في المحافل الدولية والتفاوض الفعال لتحقيق تطلعاتهم الوطنية. وعلى مدى السنوات الماضية، فشلت عدة جولات من الحوار والمصالحة، بوساطة إقليمية ودولية، في رأب الصدع بشكل كامل، مما عزز من حالة عدم اليقين بشأن مستقبل المؤسسات الفلسطينية.
ملامح الإعلان الدستوري الجديد وأهدافه
يشير الإعلان الدستوري الجديد، الذي ترددت أنباء عن صدوره من جهة قيادية فلسطينية في الضفة الغربية، إلى محاولة جدية لتجاوز حالة الفراغ الدستوري وتوحيد الإطار القانوني الناظم للحياة السياسية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن تفاصيله لم تُنشر بشكل كامل في جميع وسائل الإعلام، إلا أن المصادر تشير إلى أنه يهدف إلى: توضيح صلاحيات الرئاسة، إعادة هيكلة الأجهزة التنفيذية والتشريعية، ووضع أسس لعملية انتخابية مستقبلية شاملة. كما يزعم بعض المؤيدين أنه يسعى إلى دمج القوانين الأساسية القائمة وإضفاء الشرعية على مؤسسات دولة فلسطين، تمهيدًا لمرحلة ما بعد الاحتلال. ويُنظر إليه كخطوة لتحديد المسار القانوني والسياسي الذي يجب أن تتبعه السلطة الموحدة في كل من الضفة وغزة، خاصة في سياق ترتيبات “اليوم التالي” للحرب في غزة.
ردود الفعل الفلسطينية والإقليمية
لم يمر الإعلان الدستوري دون إثارة ردود فعل متباينة داخل الساحة الفلسطينية وخارجها. من الضفة الغربية، جاءت ردود الفعل منقسمة؛ ففي حين رحبت بعض الأوساط في السلطة الفلسطينية بالإعلان كخطوة ضرورية لتوحيد الصف وتحديث المنظومة القانونية، أعربت فصائل أخرى وشخصيات مستقلة عن مخاوفها بشأن توقيته، وآليات صياغته، ومدى تمثيله لكافة الأطياف الفلسطينية. البعض اعتبره محاولة لفرض رؤية سياسية معينة دون توافق وطني شامل.
أما من قطاع غزة، فقد جاء رد حركة حماس وبعض الفصائل الأخرى رافضًا أو متحفظًا بشدة. حيث اعتبرت الحركة أن أي إعلان دستوري يصدر دون توافق وطني حقيقي بين جميع المكونات الفلسطينية يعد غير شرعي ولا يمثل إرادة الشعب الفلسطيني بأسره. كما طالبت بضرورة العودة إلى طاولة الحوار الشامل وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية وتشاركية، وليس بقرارات فردية أو من طرف واحد. إقليميًا ودوليًا، تبدو بعض الأطراف مهتمة بمثل هذه المبادرات التي قد تؤدي إلى استقرار سياسي، بينما حذرت أخرى من مغبة تعميق الانقسام بدلًا من حله، مؤكدة على ضرورة التوافق الشامل.
التداعيات المحتملة على المشهد الداخلي ومستقبل الصراع
يمثل الإعلان الدستوري الجديد مفترق طرق حاسمًا. فمن جهة، يمكن أن يكون بمثابة إطار قانوني يوجه جهود توحيد المؤسسات الفلسطينية وتقديم رؤية واضحة لمرحلة ما بعد النزاع في غزة. وقد يفتح الباب أمام إصلاحات داخلية طال انتظارها وتجديد شرعية المؤسسات. ومن جهة أخرى، إذا لم يتم التعامل معه بحكمة وتوافق وطني واسع، فإنه قد يزيد من حدة الانقسام السياسي القائم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ويعقد الجهود المبذولة لإنهاء الصراع الداخلي. يمكن أن يؤثر ذلك سلبًا على مصداقية القيادة الفلسطينية أمام شعبها والمجتمع الدولي، ويقلل من فعاليتها في مواجهة التحديات الخارجية.
إن قدرة هذا الإعلان على إعادة رسم خطوط الصراع الداخلي، أو بالأحرى تجاوزها نحو وحدة وطنية حقيقية، ستعتمد بشكل كبير على مدى الاستجابة له من قبل الفصائل الفلسطينية المختلفة، ومدى مرونة الجهة التي أصدرته في استيعاب التعديلات والملاحظات. يبقى التحدي الأكبر هو بناء الثقة المتبادلة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفئوية، لضمان مستقبل سياسي فلسطيني موحد ومستقر.





