الثقة بالدولار الأميركي على المحك وسط إغلاق حكومي وانقسام سياسي
تواجه الولايات المتحدة مرة أخرى شبح الإغلاق الحكومي، وهي أزمة متكررة تنبع من الانقسامات السياسية العميقة في واشنطن. هذا الوضع لا يهدد فقط بتعطيل الخدمات الفيدرالية وحياة ملايين الموظفين، بل يلقي بظلال من الشك على الاستقرار الاقتصادي للبلاد ومكانة الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية مهيمنة. وفي ظل تصاعد الخلافات بين الحزبين الرئيسيين، يراقب المستثمرون والشركاء الدوليون بقلق بالغ قدرة أكبر اقتصاد في العالم على إدارة شؤونه المالية بمسؤولية.

خلفية الأزمة السياسية والمالية
تحدث عمليات الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة عندما يفشل الكونغرس في إقرار مشاريع قوانين الإنفاق اللازمة لتمويل عمليات الحكومة. وغالباً ما تتحول هذه المفاوضات السنوية إلى ساحة معركة سياسية، حيث يستخدم كل طرف الموعد النهائي للتمويل كوسيلة ضغط لتمرير أجندته الخاصة أو لعرقلة أجندة الطرف الآخر. وتتراوح نقاط الخلاف عادةً بين مستويات الإنفاق العام، والسياسات المتعلقة بالهجرة، والرعاية الصحية، أو رفع سقف الدين الوطني، وهو الحد الأقصى للمبلغ الذي يمكن للحكومة اقتراضه للوفاء بالتزاماتها.
على مر السنوات، شهدت الولايات المتحدة عدة عمليات إغلاق حكومي، كان أبرزها في عامي 2013 و 2018-2019. وقد أظهرت هذه التجارب السابقة أن الخلافات السياسية يمكن أن تؤدي إلى عواقب اقتصادية حقيقية، بما في ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي، وانخفاض ثقة المستهلك، وتعطيل الأسواق المالية.
التطورات الأخيرة وتأثيرها المباشر
في الأسابيع الأخيرة، تجددت المواجهة بين الإدارة الأميركية وأعضاء الكونغرس حول الميزانية الفيدرالية الجديدة. يتمسك الجمهوريون بمطالب لخفض كبير في الإنفاق الحكومي كشرط للموافقة على التمويل، بينما يرفض الديمقراطيون هذه التخفيضات الجذرية، معتبرين أنها تضر بالبرامج الاجتماعية الحيوية. هذا الجمود يضع الاقتصاد على حافة الهاوية، حيث إن الفشل في التوصل إلى حل وسط قبل الموعد النهائي يعني إيقاف الخدمات الحكومية "غير الأساسية" وإرسال مئات الآلاف من الموظفين الفيدرaliين إلى إجازة إجبارية بدون أجر.
تداعيات على الأسواق ومكانة الدولار
تثير حالة عدم اليقين هذه قلقاً بالغاً في الأسواق المالية. حذرت وكالات التصنيف الائتماني الكبرى، مثل Moody's و Fitch، من أن تكرار سيناريوهات الإغلاق والمواجهات حول سقف الدين يهدد التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة. إن أي تخفيض في هذا التصنيف من شأنه أن يزيد من تكاليف الاقتراض للحكومة الأميركية ويحدث موجات صادمة في النظام المالي العالمي.
الأهم من ذلك، أن هذه الأزمات المتكررة تضعف الثقة بالدولار الأميركي على المدى الطويل. لطالما اعتُبر الدولار ملاذاً آمناً عالمياً بفضل استقرار الاقتصاد والمؤسسات الأميركية. ولكن عندما تظهر هذه المؤسسات السياسية عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية، يبدأ المستثمرون والبنوك المركزية الأجنبية في التساؤل حول مدى استدامة هذا الوضع. وقد أدت هذه المخاوف إلى تسريع وتيرة النقاشات العالمية حول ما يسمى بـ "إزالة الدولرة" (de-dollarization)، حيث تسعى دول مثل الصين وروسيا وكتل اقتصادية أخرى إلى تقليل اعتمادها على الدولار في التجارة والاحتياطيات الأجنبية. ورغم أن الدولار لا يزال مهيمناً، فإن كل أزمة سياسية في واشنطن تعد بمثابة تذكير للعالم بضرورة البحث عن بدائل.
نظرة مستقبلية وردود فعل دولية
ينظر حلفاء الولايات المتحدة ومنافسوها إلى هذا المشهد بقلق. فالحلفاء يخشون من أن عدم الاستقرار في واشنطن قد يمتد ليؤثر على الاقتصاد العالمي، بينما قد يرى المنافسون في ذلك فرصة لتعزيز نفوذهم المالي والسياسي. إن حل الأزمة الحالية لا يقتصر على مجرد إعادة فتح المكاتب الحكومية، بل يتعلق بإعادة تأكيد مصداقية الولايات المتحدة كقائد اقتصادي عالمي يمكن التنبؤ بسياساته والوثوق به. ويعتمد مستقبل مكانة الدولار إلى حد كبير على قدرة القادة السياسيين في واشنطن على تجاوز خلافاتهم والعمل من أجل المصلحة الوطنية والدولية.





