في قلب جنوب مصر، حيث تتجلى عظمة نهر النيل وجمال الطبيعة الخلاب، تتواصل جهود أبناء النوبة للحفاظ على إرثهم الثقافي العريق الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل. وفي طليعة هذه الجهود يبرز فن العزف وصناعة آلة "الطنبور" النوبية التقليدية، التي لا تُمثل مجرد آلة موسيقية، بل هي رمز حي للهوية النوبية وذاكرتها المتجذرة في أعماق التاريخ.
النوبة: "الطنبور" إرث الأجداد ودروس للأطفال والسياح.. "عبد الماجد" صانع الآلة يحكي 60 عامًا من الحفاظ على الهوية
تشكل النوبة، بتاريخها الغني وثقافتها الفريدة، بقعة ضوء في الخريطة الثقافية المصرية، حيث تعكس موروثات حضارة كوش القديمة. ومع تزايد التحديات التي تواجه الثقافات المحلية في العصر الحديث، يظل الحفاظ على هذه التقاليد أولوية قصوى. ويُعد الطنبور، بصدى أوتاره الشجية، الشاهد الأبرز على هذه الأصالة، فهو يحتل مكانة محورية في الحياة اليومية والاحتفالات النوبية.
أهمية الطنبور النوبي والهوية الثقافية
يُعتبر الطنبور النوبي أكثر من مجرد آلة موسيقية؛ إنه جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي للنوبيين. فصوته يعكس قصص الأجداد، ويروي حكايات الأرض والنيل، ويُعد وسيلة للتعبير عن الفرح والحزن، والاحتفال بالمناسبات المختلفة. يرى أبناء النوبة في هذه الآلة تجسيدًا لهويتهم وذاكرتهم الجماعية، ومرآة تعكس الحضارة العريقة التي يفخرون بالانتماء إليها. ولذلك، فإن الحفاظ على هذا الفن ليس مجرد مسعى للحفاظ على التراث الموسيقي، بل هو دفاع عن كيان ثقافي كامل.
جهود الحفاظ على الإرث: تعليم الأجيال
إدراكًا لأهمية استمرارية هذا الإرث، يبذل أبناء النوبة جهودًا مضنية لضمان انتقال فن العزف وصناعة الطنبور إلى الأجيال الشابة. تُقام فصول وورش عمل تعليمية، غالبًا ما تكون في الهواء الطلق أو داخل بيوت النوبة التقليدية، حيث يقوم الكبار بتعليم الأطفال فنون العزف على هذه الآلة. تبدأ الدروس بتعليم الأطفال، الذين غالبًا ما تُوصف أيديهم بأنها "أبو كف رقيق وصغير"، كيفية الإمساك بالآلة والعزف على أوتارها، ليس فقط لإنتاج الأصوات الصحيحة، بل لفهم الروح الكامنة وراء كل نغمة. هذه العملية التعليمية ليست مجرد تلقين للمهارات الموسيقية، بل هي غرس لقيم الانتماء والتراث، وربط الأجيال الجديدة بجذورها العميقة.
عبد الماجد: رحلة صانع الطنابير
تتجسد قصة الشغف والإتقان في شخصية عبد الماجد، الذي يُعد أحد أبرز أمناء هذا الفن. بدأت رحلته مع الطنبور قبل ستة عقود، حينما كان طفلاً يتعلم العزف على يد أساتذته. ومع مرور السنين، لم يكتفِ بإتقان العزف فحسب، بل اتجه إلى تعلم فن صناعة الطنبور نفسه، ليصبح أحد أمهر صانعيها في النوبة. قصة عبد الماجد، التي امتدت لستين عامًا من التفاني والعطاء، تُمثل شهادة حية على الأهمية التي يوليها المجتمع النوبي للحفاظ على تفاصيل تراثه. فكل طنبور يصنعه يحمل في طياته خلاصة خبرة عقود طويلة، ويُعتبر تحفة فنية تجسد الدقة والمهارة والتفاني في الحفاظ على هذا الفن الأصيل.
الجاذبية السياحية والدور المستقبلي
لم يقتصر الاهتمام بفن الطنبور النوبي على أبناء المجتمع المحلي فحسب، بل امتد ليجذب أنظار العالم الخارجي. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الأفواج السياحية التي تزور النوبة تطلب بلهفة الانخراط في دروس تعليمية حول هذا الفن الفريد. هذه الرغبة المتزايدة من السياح في تعلم العزف على الطنبور، أو حتى مجرد الاستماع إلى ألحانه الحية، تعكس مدى جاذبيته العالمية وتساهم في إبرازه ككنز ثقافي يستحق الاهتمام والتقدير. هذا التفاعل السياحي يفتح آفاقًا جديدة للحفاظ على هذا التراث، ويوفر فرصًا اقتصادية للمجتمع المحلي، معززًا بذلك استدامته للأجيال القادمة. وتُبرز هذه التطورات الأخيرة، التي تُشير إلى تجدد الاهتمام بالتراث النوبي، أن الطنبور لا يزال يلعب دورًا حيويًا في تشكيل هوية النوبة ومستقبلها الثقافي.




