اليونسكو تدرج فن الطهي المديني ضمن قوائم التراث الثقافي اللامادي
في إنجاز ثقافي بارز أُعلن عنه مؤخرًا بتاريخ 15 مايو 2024، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) فن الطهي المديني ضمن قوائمها للتراث الثقافي اللامادي. يأتي هذا القرار ليُسلِّط الضوء على الأهمية التاريخية والثقافية للمطبخ المديني، معترفًا بقيمته كجزء حيوي من الهوية والتراث الإنساني العالمي. يمثل هذا الإدراج خطوة مهمة نحو صون وتقوية التقاليد الغذائية الفريدة التي توارثتها الأجيال في المدينة المنورة ومحيطها، وتقديرًا للجهود المجتمعية في الحفاظ على هذا الإرث العريق.

لطالما كان فن الطهي في المدينة المنورة، المعروفة تاريخياً ودينياً، مرآة تعكس التنوع الثقافي والتاريخي الغني للمنطقة. يتميز المطبخ المديني بمزيج فريد من النكهات والتوابل المحلية، إضافة إلى طرق تحضير تعود لقرون مضت، والتي غالبًا ما ترتبط بالمواسم والأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية. هذا الاعتراف الدولي من اليونسكو لا يقتصر على تكريم الأطباق بحد ذاتها، بل يشمل أيضًا الممارسات الاجتماعية والمهارات والمعارف المرتبطة بإعداد الطعام واستهلاكه، والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمجتمع المديني.
الخلفية التاريخية والثقافية لفن الطهي المديني
يعود فن الطهي المديني بجذوره إلى تاريخ المدينة المنورة العريق، حيث كانت محطة رئيسية للقوافل التجارية وملتقى للحجاج من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وقد ساهم هذا التفاعل في إثراء المطبخ المحلي، ليصبح مزيجًا فريدًا يجمع بين التأثيرات العربية، الأفريقية، والآسيوية، مع الاحتفاظ بخصائصه الأصيلة. تتميز الأطباق المدينية باستخدام مكونات طبيعية وزراعية خاصة بالمنطقة، مثل التمور بأنواعها المختلفة، والقمح، والشعير، والبهارات التي تعكس التنوع الجغرافي للمنطقة.
تتجاوز أهمية المطبخ المديني كونه مجرد وسيلة للغذاء، ليصبح عنصرًا محوريًا في الحياة الاجتماعية والثقافية. فهو يرتبط بعادات الضيافة الكريمة، والاحتفالات العائلية، والأعياد الدينية، حيث تُعد أطباق معينة لمناسبات محددة، مما يعزز من الترابط الاجتماعي وتوارث المعارف بين الأجيال. تُعد المائدة المدينية بمثابة رمز للكرم والجود، وتُعبر عن ثقافة مجتمعية عميقة تُقدر الطعام كجزء من الهوية والتراث.
معايير اليونسكو وأهمية الإدراج
تُدرج اليونسكو عناصر التراث الثقافي اللامادي بعد عملية تقييم صارمة تضمن استيفاء العنصر لمعايير محددة. هذه المعايير تشمل: أن يكون العنصر متوافقًا مع الأدوات الدولية لحقوق الإنسان، وأن تكون هناك أدلة على مشاركة واسعة النطاق من المجتمع المحلي في عملية الترشيح، وأن يُسهم إدراجه في زيادة الوعي بأهمية التراث الثقافي اللامادي، وأن يتم اتخاذ تدابير صون وحماية مناسبة للحفاظ عليه. وقد أكدت اللجنة المختصة في اليونسكو أن فن الطهي المديني استوفى هذه المتطلبات بنجاح، مما يعكس العمل الدؤوب للمؤسسات الثقافية والجهات الحكومية والمجتمعية السعودية في إعداد ملف الترشيح.
إن إدراج فن الطهي المديني ضمن هذه القائمة المرموقة يمنحه اعترافًا عالميًا بأصالته وقيمته الثقافية. هذا الاعتراف لا يوفر فقط الحماية والتقدير لتقاليد الطهي، بل يشجع أيضًا على البحث والتوثيق وتبادل المعارف المتعلقة بهذا الفن. كما أنه يعزز من وعي الأجيال الشابة بأهمية تراثهم، ويُسهم في انتقال هذه المهارات والمعارف إليهم، مما يضمن استدامتها للأجيال القادمة.
الآثار المتوقعة على المجتمع المحلي والسياحة
من المتوقع أن يكون لإدراج فن الطهي المديني في قائمة اليونسكو آثار إيجابية متعددة الأوجه:
- تعزيز الهوية الثقافية والفخر: سيزيد هذا الاعتراف من شعور سكان المدينة المنورة بالفخر بتراثهم الغذائي، ويُعزز من هويتهم الثقافية المحلية والوطنية.
- دعم الحفاظ على التقاليد: سيشجع الإدراج على المزيد من الجهود لحفظ وتوثيق وصفات وممارسات الطهي التقليدية، وربما إنشاء برامج تعليمية وورش عمل لنقل هذه المهارات.
- النمو السياحي والاقتصادي: من المرجح أن يجذب هذا التصنيف السياح والزوار المهتمين بالتجارب الثقافية الأصيلة والمطبخ التقليدي. هذا يمكن أن يُنشِّط الاقتصاد المحلي من خلال زيادة الطلب على المطاعم التقليدية، المنتجات المحلية، وورش الطهي، مما يخلق فرص عمل جديدة.
- التبادل الثقافي: يُسهم الاعتراف العالمي في إتاحة الفرصة لفن الطهي المديني ليكون جزءًا من الحوار الثقافي العالمي، مما يعزز التفاهم بين الثقافات المختلفة.
- التشجيع على الابتكار: في الوقت الذي يُسهم فيه الإدراج في الحفاظ على الأصالة، فإنه قد يُشجع أيضًا الطهاة الشباب على الابتكار ضمن إطار التقاليد، لتقديم المطبخ المديني بطرق عصرية تحافظ على روحه.
يُعد هذا الإنجاز تتويجًا لجهود متواصلة بذلتها المملكة العربية السعودية في سبيل تسجيل عناصر تراثها الثقافي الغني في قوائم اليونسكو. وهو يؤكد على التزام المملكة بصون التنوع الثقافي العالمي، وإبراز كنوزها التراثية الفريدة التي تستحق التقدير والحماية. يُمثل فن الطهي المديني نموذجًا حيًا لكيفية أن يكون الطعام أكثر من مجرد حاجة أساسية، بل هو وعاء يحمل في طياته قرونًا من التاريخ، العادات، والقيم الاجتماعية، ليصبح بذلك جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية لأمة وشعب.





