تحول البرامج الفنية: نهاية عصر «طاولة منى»
شهد المشهد الإعلامي العربي، في مطلع عام 2024 وما قبله بقليل، تحولاً ملحوظاً في طبيعة البرامج التلفزيونية الفنية، حيث بدأت بوصلة الإنتاج التلفزيوني تبتعد بشكل متزايد عن النمط التقليدي للبرامج الحوارية الفنية، الذي لطالما هيمن على شاشات القنوات، خصوصاً خلال المواسم الرمضانية. هذا التحول، الذي يمكن وصفه بأنه نهاية عصر «طاولة منى» الرمزية، يشير إلى ابتعاد صنّاع المحتوى عن اللقاءات الكلاسيكية المليئة بالثرثرة والتكرار، نحو صيغ جديدة وأكثر عمقاً، أبرزها ظاهرة البودكاست المتنامية.

خلفية: هيمنة «طاولة منى»
عبر عقود، أصبحت البرامج الفنية الحوارية جزءاً لا يتجزأ من برمجة القنوات العربية، خاصة في شهر رمضان المبارك. كانت هذه البرامج، التي يمكن أن تُرمز لها بـ«طاولة منى»، تستضيف نجوماً وفنانين لمناقشة آخر أعمالهم، حياتهم الشخصية، أو حتى قضايا عامة بطابع خفيف ومسلٍ. تميزت هذه اللقاءات بطولها، وأسلوبها المعتمد على الدردشة، وقلة التركيز على العمق التحليلي في كثير من الأحيان. كانت هذه الصيغة تحقق نسب مشاهدة عالية، مستفيدة من التجمعات العائلية بعد الإفطار، وتقدم محتوى ترفيهياً سهلاً ومناسباً لجميع الأعمار. ومع ذلك، بدأت هذه البرامج تعاني من التكرار في الأفكار والضيوف، مما أدى إلى شعور الجمهور بالملل وعدم التجديد، وباتت تفتقر إلى الجاذبية في ظل التغيرات المتسارعة في ذوق المشاهد.
عوامل التحول: لماذا تراجعت البرامج التقليدية؟
يمكن عزو الابتعاد عن نموذج «طاولة منى» إلى عدة عوامل رئيسية متضافرة، عكست تغيرات جذرية في عادات استهلاك المحتوى وتوقعات الجمهور:
- تغير أنماط المشاهدة: لم يعد الجمهور مقيداً بالبث التلفزيوني الخطي. مع انتشار الإنترنت والمنصات الرقمية وخدمات البث عند الطلب (VOD)، أصبح للمشاهد القدرة على اختيار ما يراه ومتى يراه، مما قلل من الاعتماد على البرامج المجدولة سلفاً.
- البحث عن العمق والأصالة: سئم الكثيرون من اللقاءات السطحية والأسئلة التقليدية التي لا تقدم جديداً. أصبح هناك طلب متزايد على المحتوى الذي يقدم نقاشات معمقة، ورؤى حقيقية، وتجارب أصيلة من الضيوف، بعيداً عن البروتوكولات الإعلامية المعتادة.
- صعود البودكاست والمنصات الرقمية: شكلت البودكاست بديلاً قوياً، بفضل مرونتها وقدرتها على استضافة حوارات طويلة وغير مقيدة بزمن البث التلفزيوني. تتيح البودكاست مساحة أكبر للضيوف للتعبير عن آرائهم بحرية أكبر، وتغطية مواضيع متنوعة بعمق غير مسبوق.
- السهولة والتكلفة الإنتاجية: تتميز البودكاست ومنصات المحتوى الرقمي بكونها أقل تكلفة في الإنتاج مقارنة بالبرامج التلفزيونية الضخمة، مما فتح الباب أمام عدد أكبر من المبدعين للدخول في هذا المجال وتقديم محتوى متنوع.
- الديموغرافية الشابة: يميل الشباب، الذي يمثل شريحة كبيرة من مستهلكي المحتوى، إلى تفضيل المنصات الرقمية والبودكاست لقدرتها على تقديم محتوى يلبي اهتماماتهم المتخصصة ويتناسب مع نمط حياتهم السريع.
الوجه الجديد: البودكاست بديلاً وظيفياً
لم يكن تحول البرامج الفنية مجرد انسحاب من القديم، بل كان أيضاً احتضاناً للمستقبل، حيث برز البودكاست كبديل حيوي ومؤثر. تقدم البودكاست للنجوم والفنانين منصة أكثر شخصية وصدقاً للتواصل مع جماهيرهم. فبدلاً من الاستوديوهات اللامعة والأسئلة المجهزة، يجد الضيف والمضيف مساحة للحوار العفوي، الذي غالباً ما يكشف جوانب جديدة وأكثر إنسانية من شخصياتهم وأعمالهم الفنية. هذا التوجه لا يقتصر على برامج حوارية عن الفن فقط، بل يمتد ليشمل بودكاستات يديرها فنانون أنفسهم، يتحدثون فيها عن كواليس صناعة أعمالهم، تحديات المهنة، وتجاربهم الشخصية، مما يخلق رابطاً أقوى وأكثر واقعية مع الجمهور.
ساهمت البودكاست في إعادة تعريف مفهوم "البرنامج الفني"، ليصبح أكثر اتساعاً ويشمل نقاشات فكرية حول الفن، تحليلات للأعمال الفنية، أو حتى حكايات شخصية من وراء الكواليس. هذه المرونة في الشكل والمحتوى جعلتها الخيار المفضل لمن يبحث عن محتوى ذي قيمة مضافة، بعيداً عن استعراض المظاهر أو الترويج المباشر.
تأثير التحول على المشهد الإعلامي
لم يقتصر تأثير هذا التحول على نوعية البرامج الفنية فحسب، بل امتد ليشمل المشهد الإعلامي ككل في المنطقة:
- ضغوط على القنوات التقليدية: تجد القنوات التلفزيونية نفسها مضطرة لإعادة التفكير في استراتيجياتها. بعضها بدأ في إطلاق منصاته الرقمية الخاصة أو تطوير برامج بودكاست لتعويض تراجع المشاهدات التقليدية.
- فرص جديدة للمبدعين المستقلين: فتحت المنصات الرقمية الباب أمام جيل جديد من المبدعين الذين يمكنهم إنتاج محتواهم الخاص وتوزيعه دون الحاجة إلى دعم القنوات الكبرى، مما أدى إلى إثراء المحتوى وتنوعه.
- تغيير في معايير الشهرة والتأثير: لم تعد الشهرة حكراً على الظهور التلفزيوني فقط. المؤثرون وصناع المحتوى الرقمي، بمن فيهم مقدّمو البودكاست، أصبحوا يتمتعون بتأثير كبير على الرأي العام وذوق الجمهور.
- استهداف الجمهور: سهلت المنصات الرقمية استهداف شرائح جمهور محددة باهتمامات متخصصة، مما أدى إلى ظهور محتوى أكثر تخصصاً وتلبية لاحتياجات هذه الشرائح.
في الختام، يمثل تحول البرامج الفنية ابتعاداً عن «طاولة منى» التقليدية نحو فضاء رقمي أرحب وأكثر تنوعاً. إنه ليس مجرد تغيير في شكل العرض، بل هو انعكاس لتطور العلاقة بين الجمهور ووسائل الإعلام، حيث أصبح للمشاهد دور أكبر في تحديد نوعية المحتوى الذي يفضله. هذه التغييرات تؤذن بمرحلة جديدة في الإعلام العربي، تتميز بالمرونة، العمق، والتفاعل، وتفتح آفاقاً واسعة للابتكار في تقديم المحتوى الفني والترفيهي.





