تتجدد في مصر، في الأشهر الأخيرة، أزمة الكلاب الضالة لتتصدر واجهة النقاش العام، مثيرةً انقساماً حاداً بين مخاوف المواطنين المتزايدة من حوادث العقر، ودعوات منظمات الرفق بالحيوان للتعامل مع هذه القضية من منظور إنساني وعلمي. هذا الجدل الدائر في الشوارع وعبر وسائل الإعلام يسلط الضوء على تحدٍ اجتماعي وبيئي مركب، يتطلب حلولاً شاملة لا ترضي جميع الأطراف فحسب، بل تضمن السلامة العامة وتحافظ على التوازن البيئي.

خلفية الأزمة: تاريخ من التعايش والتوتر
تاريخياً، لطالما كانت الكلاب الضالة جزءاً من المشهد الحضري والريفي في مصر، حيث تعايشت المجتمعات معها بدرجات متفاوتة من القبول أو التحفظ. ورغم أن أعدادها كانت دائماً محل نقاش، إلا أن الاهتمام الرسمي والشعبي بهذه القضية كان يتأرجح بين فترات من الهدوء وفترات من التصعيد، غالباً ما ترتبط بزيادة ملحوظة في حوادث العقر أو تفشي أمراض مثل داء الكلب. لم توضع استراتيجيات وطنية مستدامة للتعامل مع هذه الظاهرة بشكل فعال، مما أدى إلى تراكم المشكلة وتفاقمها على مر السنين.
تصاعد المخاوف وحوادث العقر
في الآونة الأخيرة، شهدت عدة محافظات مصرية ارتفاعاً مقلقاً في أعداد بلاغات العقر، والتي شملت أطفالاً وكباراً، مما أشعل شرارة الخوف والذعر لدى قطاع واسع من المواطنين. هذه الحوادث، التي وثقت بعضها بالفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أدت إلى مطالب شعبية متزايدة بضرورة التدخل السريع والجذري لحماية الأرواح. يرى المتضررون أن وجود الكلاب الضالة بأعداد كبيرة يشكل تهديداً مباشراً لأمنهم وسلامة أبنائهم، وأن الحلول المقترحة يجب أن تكون حاسمة وفورية.
الجدل الدائر: الإبادة أم التعقيم؟
تتركز بؤرة الخلاف حول سبل التعامل مع الكلاب الضالة في مصر على محورين رئيسيين:
- دعوات الإبادة والنقل القسري: يطالب شريحة من المجتمع، خاصة من المتضررين وعائلاتهم، بضرورة التخلص من الكلاب الضالة بطرق صارمة، بما في ذلك التسميم، أو القتل بالرصاص، أو النقل القسري إلى مناطق نائية. يرى هؤلاء أن هذه الإجراءات هي الحل الوحيد والفعال للسيطرة على الأعداد المتزايدة وضمان السلامة العامة، مستندين في ذلك إلى حق الإنسان في الأمان والحماية من أي تهديد محتمل. يرون أن التكاليف والمخاطر المرتبطة بالحلول الأخرى تجعلها غير عملية.
- حلول الرفق بالحيوان والتعقيم: على الجانب الآخر، تدافع منظمات الرفق بالحيوان والأطباء البيطريون والنشطاء عن حق الكلاب في الحياة، وتشدد على أن الإبادة ليست حلاً فعالاً ولا إنسانياً. يدعون إلى تبني برامج التعقيم والإخصاء والعودة (TNR - Trap-Neuter-Return) كاستراتيجية علمية ومستدامة للسيطرة على أعداد الكلاب. تتضمن هذه البرامج صيد الكلاب الضالة، تعقيمها أو إخصائها، تطعيمها ضد داء الكلب وغيره من الأمراض، ثم إعادتها إلى بيئتها الأصلية بعد ترقيمها. يرى أنصار هذا النهج أنه يحافظ على التوازن البيئي، ويقلل من السلوك العدواني المرتبط بالتزاوج، ويضمن سلامة الإنسان على المدى الطويل دون اللجوء إلى العنف.
التحديات والآفاق المستقبلية
تواجه مصر تحديات كبيرة في تطبيق أي حل شامل لهذه الأزمة. فبرامج التعقيم، على الرغم من فعاليتها المثبتة عالمياً، تتطلب تمويلاً كبيراً وبنية تحتية لوجستية معقدة، بالإضافة إلى وعي مجتمعي وتعاون من جانب المواطنين. من جهة أخرى، فإن الحلول القمعية تثير جدلاً أخلاقياً وقد تواجه معارضة من الداخل والخارج، كما أنها أثبتت عدم فعاليتها على المدى الطويل في العديد من الدول، حيث تعود أعداد الكلاب للارتفاع مجدداً بسبب الهجرة من المناطق المجاورة وقدرة الكلاب على التكاثر السريع.
تسعى الحكومة المصرية حالياً، بالتنسيق مع الجهات المعنية، إلى إيجاد حلول متوازنة لهذه المعضلة. تشمل الجهود المبذولة دراسة تطبيق برامج التعقيم والتطعيم على نطاق واسع، بالإضافة إلى حملات توعية بأهمية الرفق بالحيوان وضرورة التعامل المسؤول مع الحيوانات الأليفة لتقليل أعداد الكلاب المهملة. كما يتم التأكيد على أهمية دور اللجان البيطرية في مراقبة الوضع واتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من مخاطر داء الكلب وغيره من الأمراض.
تفاقم أزمة الكلاب الضالة في مصر: صراع مستمر بين الخوف من العقر ودعوات الرفق بالحيوان
ختاماً: نحو حل مستدام
تظل قضية الكلاب الضالة في مصر نقطة خلاف محورية تتطلب نهجاً متعدد الأبعاد. فالصراع بين الخوف من العقر ودعوات الرفق بالحيوان يعكس تعقيدات اجتماعية وأخلاقية تتجاوز مجرد إدارة أعداد الحيوانات. إن تحقيق توازن بين حماية الإنسان وتطبيق معايير الرحمة والرفق يتطلب جهوداً مشتركة من الدولة والمجتمع المدني والأفراد، بهدف الوصول إلى حل مستدام يضمن سلامة الجميع ويرسخ مبادئ التعايش السلمي في شوارع مصر.





