مسار السلام بين تركيا والأكراد: جهود متواصلة وتحديات قائمة

يمثل الصراع الطويل الأمد بين الدولة التركية والجماعات الكردية، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني (PKK)، أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتأثيرًا في المشهد السياسي والأمني في تركيا والمنطقة المحيطة. فبعد عقود من المواجهات المسلحة التي أودت بحياة عشرات الآلاف، شهد مطلع هذا العام تجددًا للآمال في إحياء مسار السلام، إثر إعلان حزب العمال الكردستاني خطوات نحو سحب مقاتليه وتخفيف التوتر، في بادرة وصفها البعض بأنها محاولة جديدة لكسر الجمود القائم.

خلفية تاريخية للصراع

تعود جذور القضية الكردية في تركيا إلى فترة تأسيس الجمهورية، وما تبعها من سياسات قمعية للثقافة واللغة الكردية. تصاعد التوتر بشكل كبير مع تأسيس حزب العمال الكردستاني في عام 1978، والذي تبنى الكفاح المسلح في عام 1984 بهدف الحصول على حقوق سياسية وثقافية للأكراد، ومن ثم المطالبة بدولة مستقلة أو حكم ذاتي. صنفت تركيا ومعظم حلفائها الغربيين، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الحزب منظمة إرهابية، وهو التصنيف الذي ما زال محور جدل دبلوماسي وسياسي.

المفاوضات ومحاولات السلام السابقة

على مدار العقود الماضية، شهدت العلاقة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني مراحل متقطعة من المفاوضات ومبادرات السلام، كان أبرزها ما يُعرف بـ "عملية الحل" التي انطلقت في عام 2012. هدفت هذه العملية إلى إنهاء الصراع عبر الحوار والتنازلات المتبادلة، وشملت مباحثات مباشرة وغير مباشرة مع زعيم الحزب المعتقل عبد الله أوجلان. لكن هذه المحاولات تعثرت في النهاية وتوقفت بشكل كامل بحلول عام 2015، متأثرة بعوامل داخلية مثل تصاعد القومية التركية والتحولات السياسية، وعوامل إقليمية تتعلق بالحرب الأهلية في سوريا ودور الأكراد فيها.

التطورات الأخيرة ومطالب الأكراد

في الأشهر الأخيرة، جاءت إشارات من حزب العمال الكردستاني، عبر قياداته الموجودة في شمال العراق، تفيد بالاستعداد لـ "سحب" مقاتليه من الأراضي التركية إلى قواعده في جبال قنديل، ووقف الأعمال المسلحة، وذلك كخطوة إضافية نحو إحياء مسار السلام. إلا أن هذا الإعلان لم يأتِ دون شروط ومطالب واضحة من جانب الحزب، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

ضمانات قانونية: دعوات لتوفير إطار قانوني يحمي المقاتلين المنسحبين ويكفل حقوقهم المدنية والسياسية.
حقوق ثقافية وسياسية: المطالبة بتعزيز الحقوق الثقافية للأكراد، بما في ذلك التعليم باللغة الأم، والمشاركة السياسية الفعالة.
إصلاحات دستورية: ضرورة تعديل الدستور التركي ليكون أكثر شمولية ويعكس التنوع العرقي والثقافي للبلاد.
وضع عبد الله أوجلان: تحسين ظروف اعتقاله وإمكانية الإفراج عنه أو نقله إلى الإقامة الجبرية كشرط أساسي لتقدم مسار السلام.

رد الفعل التركي والتحديات القائمة

قابلت أنقرة هذه التطورات بحذر شديد، معربة عن ترحيبها بأي خطوة تهدف إلى نزع السلاح وإنهاء الإرهاب، ولكنها شددت على ضرورة أن تكون هذه الخطوات ملموسة وذات طبيعة لا رجعة فيها. أكدت الحكومة التركية أن الشرط الأساسي لأي تقدم هو الانسحاب الكامل وغير المشروط للمقاتلين وإلقاء السلاح، ورفضت أي شروط مسبقة تتعلق بوضع عبد الله أوجلان أو تغييرات دستورية واسعة تحت ضغط التهديد المسلح. كما ترى أنقرة أن جهودها المستمرة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك العمليات العسكرية في شمال العراق وسوريا، هي جزء لا يتجزأ من تحقيق الاستقرار والأمن. من أبرز التحديات التي تعترض هذا المسار:

عدم الثقة المتبادلة: عقود من الصراع خلفت تراكمًا من عدم الثقة بين الطرفين.
التسييس الداخلي: أي خطوة نحو السلام تواجه معارضة قوية من القوى القومية داخل تركيا، مما يحد من مساحة المناورة للحكومة.
الوضع الإقليمي: التطورات في سوريا والعراق، وتزايد نفوذ الجماعات الكردية هناك، تزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي.

الآفاق المستقبلية وأهمية المسار

رغم التحديات الجمة، يظل مسار السلام بين تركيا والأكراد ضرورة ملحة لتحقيق الاستقرار المستدام في المنطقة. إن نجاح أي مبادرة سلام من شأنه أن يفتح آفاقًا واسعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الجنوبية الشرقية من تركيا، ويعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد. كما سيسهم في تحسين صورة تركيا على الساحة الدولية ويخفف من التوترات الإقليمية. يتطلب المضي قدمًا في هذا المسار التزامًا حقيقيًا من كلا الجانبين، ومرونة في التفاوض، ودعمًا من المجتمع الدولي لضمان حماية أي اتفاقيات مستقبلية. يبقى هذا الطريق محفوفًا بالمخاطر، لكن الأمل في مستقبل خالٍ من العنف يدفع الأطراف نحو مواصلة البحث عن حلول دائمة.