توثيق جرائم الإبادة في دارفور: مطلب أساسي لنجاح أي عملية سلام
في ظل تصاعد الصراع الدائر في السودان، برزت قضية المساءلة عن الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور كعقبة أساسية وركيزة محورية لأي تسوية سياسية مستقبلية. وتؤكد حركات الكفاح المسلح ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمعات المتضررة أن أي عملية سلام تتجاهل التوثيق المنهجي لجرائم الحرب والإبادة الجماعية، القديمة والحديثة، محكوم عليها بالفشل، لأنها تتغاضى عن جذور الأزمة وتكرس ثقافة الإفلات من العقاب.

خلفية الصراع وجذور الأزمة
تعود أزمة دارفور إلى عام 2003، عندما حملت حركات التمرد السلاح ضد حكومة الخرطوم آنذاك، متهمة إياها بتهميش الإقليم سياسياً واقتصادياً. ردت الحكومة بدعم ميليشيات عربية عُرفت باسم "الجنجويد"، والتي شنت حملة عنيفة من القتل والتهجير والتدمير الممنهج استهدفت بشكل أساسي المجموعات العرقية غير العربية مثل الفور والمساليت والزغاوة. وقد وصفت الولايات المتحدة والعديد من المنظمات الدولية هذه الفظائع بأنها إبادة جماعية، مما دفع المحكمة الجنائية الدولية (ICC) إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين سودانيين، من بينهم الرئيس السابق عمر البشير، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
تجدد العنف ومخاوف من تكرار المأساة
مع اندلاع القتال في السودان في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع (RSF)، التي تعتبر الوريث المباشر لميليشيات الجنجويد، عاد العنف العرقي إلى دارفور بقوة أكبر. وشهدت مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، فصولاً دامية من القتل على أساس الهوية العرقية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية إلى أن قوات الدعم السريع وميليشيات عربية متحالفة معها استهدفت بشكل ممنهج أفراد مجتمع المساليت، مما أسفر عن مقتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف. وقد وصفت هذه الهجمات بأنها تحمل بصمات حملة التطهير العرقي التي شهدها الإقليم قبل عقدين، مما أثار مخاوف جدية من تكرار سيناريو الإبادة الجماعية.
لماذا يعتبر التوثيق والعدالة شرطاً للسلام؟
تكمن أهمية الإصرار على توثيق الجرائم في عدة أبعاد أساسية تعتبرها الأطراف المتضررة غير قابلة للتفاوض:
- تحقيق العدالة للضحايا: ترى المجتمعات المتضررة أن السلام الذي لا يضمن محاسبة الجناة هو سلام منقوص يتجاهل تضحيات ومعاناة مئات الآلاف من الضحايا.
- ضمان عدم التكرار: إن محاسبة المسؤولين عن الفظائع السابقة والحالية تبعث برسالة واضحة مفادها أن هذه الجرائم لن يتم التسامح معها، مما يشكل رادعاً قوياً لمنع تكرارها في المستقبل.
- بناء سلام مستدام: لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية وسلام دائم دون معالجة المظالم التاريخية وتحقيق العدالة الانتقالية. إن تجاهل هذه الجرائم يعني ترك جروح مفتوحة قد تؤدي إلى اندلاع العنف مجدداً.
- دعم المساءلة الدولية: يعزز توثيق الجرائم جهود المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من آليات العدالة الدولية في ملاحقة المتهمين، ويؤكد التزام المجتمع الدولي بمكافحة الإفلات من العقاب.
التحديات والمضي قدماً
على الرغم من الأهمية القصوى لتوثيق الجرائم، تواجه هذه العملية تحديات جمة، أبرزها استمرار القتال الذي يعيق وصول المحققين والمنظمات الإنسانية إلى مناطق الانتهاكات، بالإضافة إلى غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتحاربة لتحقيق العدالة. ومع ذلك، أصبح من الواضح أن أي محاولة للتوصل إلى تسوية سياسية في السودان يجب أن تضع ملف العدالة في دارفور في صميمها، حيث أن تجاهل هذه المطالب لا يهدد مستقبل الإقليم فحسب، بل يقوض استقرار السودان بأكمله.





