صُنّاع المحتوى في ليبيا: جيل صاعد يقتفي الأثر والمعنى في فوضى الفضاء الرقمي
شهد العقد الأخير تحولاً جذرياً في المشهد الإعلامي العالمي مع صعود منصات التواصل الاجتماعي وأدوات إنشاء المحتوى الرقمي. فبعد أن كانت وسائل الإعلام التقليدية هي المصدر الرئيسي للمعلومات والترفيه، أصبح الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة للتعبير والإبداع، خصوصاً بين فئة الشباب. في ليبيا، ورغم الظروف الخاصة التي مرّت بها البلاد، برز جيل جديد من صنّاع المحتوى الذين يسعون ليس فقط لتقديم مادة جذابة، بل أيضاً لإيجاد معنى وهدف أعمق ضمن حالة الفوضى المعلوماتية التي غالباً ما تتسم بها هذه المنصات. يمثل هؤلاء الشباب قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والثقافي، محاولين بناء جسور للتواصل والتأثير في مجتمعهم.

خلفية المشهد الرقمي في ليبيا
بعد أحداث عام 2011، شهدت ليبيا فراغاً سياسياً واجتماعياً واسعاً، ترافق مع تراجع دور الإعلام التقليدي وفقدان ثقة الجمهور به في كثير من الأحيان. في هذا السياق، وجدت شريحة واسعة من الشباب الليبي في منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، انستغرام، يوتيوب، وتيك توك، متنفساً حيوياً للتعبير عن آرائهم وقضاياهم التي قد لا تجد صدى في المنابر الرسمية. لقد تحولت هذه المنصات إلى مساحات بديلة للحوار العام، ونافذة على العالم، وقناة لتوثيق الواقع المعيش، مما مكّن جيلاً كاملاً من التفاعل بطرق لم تكن متاحة من قبل. هذا التطور كان حاسماً في تشكيل وعي جماعي جديد وفي إبراز قضايا مجتمعية وثقافية وفنية.
التحديات التي تواجه صنّاع المحتوى الليبيين
على الرغم من الفرص الهائلة التي توفرها المنصات الرقمية، يواجه صنّاع المحتوى في ليبيا تحديات فريدة ومعقدة، تمتد من الجوانب التقنية والاقتصادية إلى الاجتماعية والأمنية:
- التحديات الاقتصادية والمالية: يواجه العديد من صنّاع المحتوى صعوبة في تحقيق الدخل الكافي من عملهم. فالمشهد الإعلاني المحلي لا يزال ناشئاً، كما أن القيود على أنظمة الدفع الدولية تحول دون استفادتهم الكاملة من برامج تحقيق الدخل العالمية للمنصات. هذا يدفعهم أحياناً للبحث عن بدائل لا تتوافق دائماً مع رؤيتهم للمحتوى.
 - البنية التحتية والتقنية: لا تزال جودة خدمة الإنترنت في بعض المناطق متذبذبة، كما أن الوصول إلى المعدات الاحترافية أو حتى شبه الاحترافية قد يكون مكلفاً وصعباً، مما يؤثر على جودة الإنتاج وقدرة صنّاع المحتوى على المنافسة.
 - الضغوط الاجتماعية والأمنية: قد يواجه صنّاع المحتوى الذين يتطرقون لمواضيع حساسة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، مضايقات إلكترونية، أو حملات تشويه، أو حتى تهديدات حقيقية. كما أن غياب الأطر القانونية الواضحة لحماية المحتوى الرقمي وحرية التعبير يزيد من هذه المخاطر.
 - البحث عن الأصالة والمعنى: في خضم السعي وراء الانتشار والمتابعين، يواجه الكثيرون صعوبة في الحفاظ على أصالة محتواهم والبعد عن السطحية. يسعى جيل منهم إلى تجاوز مجرد "الترند" لتقديم محتوى هادف يعكس الواقع الليبي بصدق، ويناقش القضايا الجوهرية التي تهم المجتمع.
 - قضايا الملكية الفكرية والقرصنة: في ظل غياب تشريعات واضحة، يعاني صنّاع المحتوى من انتهاك حقوق الملكية الفكرية والسرقة المتكررة لأعمالهم، مما يقلل من حافزهم للاستثمار في إنتاج محتوى أصيل ومبتكر.
 
الأثر والتأثير المجتمعي
على الرغم من التحديات، كان لصنّاع المحتوى الليبيين تأثير ملموس على عدة مستويات في المجتمع خلال السنوات القليلة الماضية، ومستمر حتى أوائل عام 2024:
- تعزيز صوت الشباب: أصبح الفضاء الرقمي منبراً للشباب للتعبير عن تطلعاتهم، مخاوفهم، وآمالهم، ليقدموا بذلك رؤية بديلة للمستقبل.
 - المساهمة في النقاش العام: يثير صنّاع المحتوى قضايا اجتماعية مهمة مثل حقوق المرأة، التغير المناخي، التعليم، والصحة، مما يدفع إلى حوار مجتمعي أوسع حولها.
 - الترويج للثقافة والهوية الليبية: يعمل العديد من المبدعين على إبراز جمال وتنوع الثقافة الليبية، من خلال الموسيقى، الفنون، الأزياء التقليدية، والمأكولات الشعبية، مما يعزز الشعور بالهوية الوطنية.
 - فرص اقتصادية جديدة: على الرغم من الصعوبات، خلقت صناعة المحتوى فرص عمل جديدة للشباب، وساهمت في تنشيط مجالات مثل التسويق الرقمي وإنتاج الفيديو.
 - بناء الجسور وكسر الحواجز: ساعد المحتوى الرقمي في تقريب وجهات النظر بين مختلف المناطق والفئات داخل ليبيا، وفي تعريف العالم الخارجي بواقع البلاد من منظور شبابها.
 
تطورات حديثة وتطلعات مستقبلية
في الآونة الأخيرة، لوحظ ازدياد في مستوى الاحترافية لدى بعض صنّاع المحتوى الليبيين، مع تحسن في جودة الإنتاج وتنوع في الأفكار. هناك أيضاً اهتمام متزايد من قبل بعض المؤسسات المحلية والدولية بدعم هذه الفئة من المبدعين من خلال ورش العمل والتدريب. ومع ذلك، تبقى الحاجة ملحة لوضع أطر قانونية وتنظيمية واضحة تحمي حقوق صنّاع المحتوى وتشجع على الابتكار، إلى جانب توفير بيئة اقتصادية مواتية لتحقيق الاستدامة. يسعى جيل صنّاع المحتوى هذا إلى تجاوز فوضى المنصات ليصنعوا لأنفسهم مساراً يحمل قيمة حقيقية، ويسهم في بناء مستقبل أفضل لليبيا.





