عُمان: الموازنة الدقيقة بين صناعة القرار الرسمي والمشاعر الشعبية
تُعرف سلطنة عُمان بنهجها الفريد والمستقر في إدارة شؤون الدولة، وهو نهج يتجاوز مجرد اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية بحتة ليلامس جوهر التوازن بين المنطق الرصين وصوت المشاعر الجماعية للشعب. هذه الفلسفة العميقة ليست مجرد سياسة حكومية، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية العُمانية التي أسست لحالة من الوئام والاستقرار نادراً ما تُرى في المنطقة.

خلفية تاريخية وفلسفة الحكم العُماني
يتجذر هذا التوازن في تاريخ عُمان الطويل كدولة بحرية وتجارية، حيث كانت الحاجة إلى التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية ضرورية للحفاظ على كيانها وسط تقلبات المنطقة. لقد أرست القيادة العُمانية، عبر عصورها المختلفة، مبدأ الشورى والمشورة كركائز أساسية للحكم. هذا التقليد لا يهدف فقط إلى استطلاع الآراء، بل إلى بناء توافق مجتمعي يضمن أن القرارات الكبرى لا تصطدم بالنسيج الاجتماعي أو تثير استياءً عامًا. إن هذا الإرث هو ما شكل الوعي الجمعي للدولة والمواطن، حيث تُعطى الأولوية للحفاظ على اللحمة الوطنية فوق كل اعتبار.
آليات الموازنة بين القرار والمشاعر
إن عملية الموازنة في عُمان متعددة الأوجه وتعتمد على آليات متطورة لدمج البعد العاطفي والاجتماعي في صلب صناعة القرار.
- القرار العقلاني والاستراتيجي: تعتمد الحكومة العُمانية على التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، كما يتجلى في رؤية عُمان 2040، التي تحدد مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه القرارات تستند إلى دراسات وتحليلات دقيقة، وتهدف إلى تحقيق أهداف وطنية كبرى مثل التنويع الاقتصادي، جذب الاستثمار، وتطوير البنية التحتية. كما أن السياسة الخارجية العُمانية، التي تتسم بالحياد والوساطة، هي نتاج قرار عقلاني يهدف إلى تعزيز مصالح البلاد واستقرار المنطقة.
- فهم المشاعر الجماعية: لا تُتخذ القرارات في فراغ اجتماعي. تعمل السلطنة على فهم نبض الشارع ورصد ردود الفعل المحتملة تجاه أي سياسة مقترحة. يتم ذلك من خلال قنوات رسمية وغير رسمية، بما في ذلك مجلس الشورى ومجلس الدولة، اللذان يمثلان صوت المواطنين ويقدمان المشورة. بالإضافة إلى ذلك، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي ومراكز الدراسات دوراً في رصد التوجهات العامة. تهدف هذه العملية إلى تجنب أي قرارات قد تُفسر على أنها غير حساسة لاحتياجات الناس أو قيمهم الثقافية والاجتماعية الراسخة.
- الإدارة الحكيمة للأزمات: برز هذا النهج بشكل واضح خلال الأزمات المختلفة، سواء كانت اقتصادية أو صحية (مثل جائحة كوفيد-19) أو حتى تحديات إقليمية. فبدلاً من فرض قرارات صارمة قد تثير رد فعل عنيف، غالبًا ما تتبع القيادة العُمانية سياسة التدرج والشفافية في التواصل، مع الحرص على شرح الأسباب وراء الإجراءات المتخذة. يساهم هذا الأسلوب في بناء الثقة وتعزيز الشعور بالمواطنة المسؤولة، مما يمكن الدولة من عبور التحديات بأقل قدر من الاضطراب الاجتماعي.
أهمية هذا النموذج للحوكمة
يمثل النهج العُماني في الموازنة بين القرار والمشاعر الجماعية نموذجاً فريداً للحوكمة المستدامة والفعالة. تسمح هذه الاستراتيجية بتحقيق الأهداف التنموية مع الحفاظ على التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية، وهي عوامل حيوية للاستقرار على المدى الطويل. كما يعزز هذا النهج قدرة الدولة على التكيف مع التغيرات الداخلية والخارجية بمرونة، ويقلل من فرص ظهور التوترات الاجتماعية، مما يجعله محط اهتمام العديد من الباحثين والمراقبين.
تطورات حديثة وتحديات مستقبلية
تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق، تواصل السلطنة تطبيق هذا النهج المتوازن، مع التركيز على تمكين الشباب وتعزيز المشاركة المجتمعية في صياغة المستقبل. ففي أواخر عام 2023، شهدت عُمان حراكًا متجددًا نحو تعزيز الحوار الوطني حول أولويات التنمية. ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من التحديات، لا سيما في ظل التغيرات الاقتصادية العالمية المتسارعة والحاجة إلى المضي قدمًا في الإصلاحات مع الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين تطلعات التنمية وحماية النسيج الاجتماعي العُماني الأصيل. إن إدراك القيادة لأهمية هذه العلاقة التكافلية بين الحكم والوجدان الشعبي هو ما يضمن استمرارية المسيرة العُمانية نحو التقدم والازدهار.
في الختام، تُعد التجربة العُمانية مثالاً حياً على أن الحوكمة الفعالة لا تقتصر على المنطق البارد للأرقام والسياسات، بل تتطلب أيضاً فهمًا عميقًا للجانب الإنساني والعاطفي للمجتمع، ومهارة فائقة في مزاوجة الاثنين لتحقيق الصالح العام والرفاهية المستدامة.





