فرنسا تضغط على الاتحاد الأوروبي لفتح تحقيق شامل ضد "شي إن"
في تطور يعكس الاهتمام الأوروبي المتزايد بالاستدامة وممارسات الشركات الأخلاقية، كثفت فرنسا في الآونة الأخيرة ضغوطها على المفوضية الأوروبية لدفعها نحو فتح تحقيق معمق في أنشطة عملاق الأزياء السريعة "شي إن" (Shein). تأتي هذه الدعوات الفرنسية في أعقاب تصنيف "شي إن" كمنصة رقمية ضخمة جداً (VLOP) بموجب قانون الخدمات الرقمية (Digital Services Act – DSA) للاتحاد الأوروبي، وهو ما يفرض عليها التزامات أكثر صرامة ومسؤوليات أوسع تجاه المستخدمين والمنتجات التي تسوقها.
خلفية الضغوط الفرنسية
نموذج عمل "شي إن"، الذي يعتمد على الإنتاج السريع بكميات هائلة وأسعار منخفضة للغاية، أثار جدلاً واسعاً في جميع أنحاء العالم. وبينما حظيت الشركة بشعبية هائلة بين المستهلكين الشباب بفضل أسعارها التنافسية وتشكيلاتها الواسعة، فقد واجهت انتقادات حادة بسبب تأثيرها البيئي الكبير وممارساتها العمالية المزعومة. تُتهم الشركة بالإسهام في التلوث البيئي الناتج عن النفايات النسيجية، واستهلاك الموارد بكميات هائلة، واستخدام مواد كيميائية قد تكون ضارة في منتجاتها.
على الصعيد العمالي، تتهم منظمات حقوق الإنسان "شي إن" بالاستفادة من ظروف عمل غير مواتية في سلاسل التوريد الخاصة بها، بما في ذلك ادعاءات بالعمل القسري في بعض المصانع الموردة، وساعات عمل طويلة بشكل مفرط، وأجور متدنية لا تتناسب مع الجهود المبذولة. تفتقر الشركة إلى الشفافية الكافية حول سلاسل التوريد الخاصة بها، مما يزيد من صعوبة التحقق من مدى التزامها بالمعايير الأخلاقية والدولية.
تُعد فرنسا من الدول الرائدة في أوروبا التي تدفع باتجاه تشريعات أكثر صرامة لمكافحة الآثار السلبية للأزياء السريعة. فقد قدمت باريس مؤخراً مشروع قانون يهدف إلى فرض رسوم بيئية على المنتجات الرخيصة سريعة التلف وحظر الإعلانات التي تروج لمثل هذه المنتجات. يتماشى هذا التوجه الوطني مع الرغبة الفرنسية في حماية البيئة وتعزيز الصناعات المستدامة، مما يجعلها أكثر حماساً لضمان التزام الشركات الكبرى مثل "شي إن" بالمعايير الأوروبية.
التطورات الأخيرة والإطار التنظيمي
في 26 أبريل 2024، اتخذت المفوضية الأوروبية خطوة مهمة بتصنيف "شي إن" كمنصة رقمية ضخمة جداً (VLOP) بموجب قانون الخدمات الرقمية (DSA). يُطبق هذا التصنيف على المنصات التي يتجاوز عدد مستخدميها النشطين شهرياً في الاتحاد الأوروبي 45 مليون مستخدم، ويُلزمها بمسؤوليات إضافية لضمان بيئة رقمية أكثر أماناً وشفافية.
تتضمن هذه الالتزامات الجديدة إجراء تقييمات منهجية للمخاطر المرتبطة بخدماتها، لا سيما تلك المتعلقة بتسويق منتجات غير آمنة أو غير قانونية، وحماية المستهلكين، والممارسات التي قد تؤثر سلباً على الصحة العامة أو البيئة. كما يجب على "شي إن" وضع تدابير قوية للتخفيف من هذه المخاطر، وزيادة الشفافية حول توصياتها الإعلانية والخوارزميات، والخضوع لعمليات تدقيق مستقلة. ويجب عليها أيضاً توفير قنوات واضحة للمستخدمين للإبلاغ عن المحتوى غير القانوني والتعامل مع شكواهم بفعالية.
تضغط فرنسا الآن على المفوضية الأوروبية لتطبيق هذه القواعد بجدية على "شي إن"، مع التركيز بشكل خاص على قضايا مثل سلامة المنتجات ومحتوى المواد الكيميائية فيها، إضافة إلى التحقيق في الشفافية حول سلاسل التوريد ومعايير العمل. تهدف باريس إلى التأكد من أن التزامات المنصة لا تظل حبراً على ورق، بل يتم تنفيذها بفعالية لضمان حماية المستهلكين والبيئة على حد سواء.
الأهمية والتداعيات المحتملة
تُعد الضغوط الفرنسية والتحركات الأوروبية ضد "شي إن" ذات أهمية بالغة لعدة أسباب. أولاً، إنها تُرسخ سابقة تنظيمية لكيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع عمالقة التجارة الإلكترونية الأخرى التي تتبنى نماذج أعمال مماثلة. هذا التحقيق قد يفرض معايير جديدة للمسؤولية على مستوى الصناعة بأكملها.
ثانياً، يعكس هذا التطور التزام الاتحاد الأوروبي القوي بحماية مستهلكيه ومواطنيه. فمن خلال فرض رقابة صارمة على "شي إن"، تسعى بروكسل إلى ضمان أن المنتجات المباعة في سوقها تلبي معايير السلامة والجودة، وأن الشركات تعمل بمسؤولية اجتماعية وبيئية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسينات ملموسة في جودة المنتجات وتخفيض المخاطر الصحية والبيئية المرتبطة بها.
ثالثاً، قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تغييرات جذرية في نموذج أعمال "شي إن" نفسه. فإذا تم إثبات انتهاكات، قد تواجه الشركة غرامات مالية كبيرة قد تصل إلى 6% من إيراداتها العالمية السنوية، مما سيجبرها على إعادة تقييم سلاسل التوريد الخاصة بها، والاستثمار في ممارسات إنتاج أكثر استدامة وأخلاقية، وزيادة الشفافية بشكل كبير. هذا من شأنه أن يعيد تشكيل المشهد التنافسي في صناعة الأزياء، وربما يوفر ميزة للمنافسين الأوروبيين الذين يلتزمون بمعايير أعلى.
في الختام، تُظهر هذه التطورات أن المنصات الرقمية الكبرى لم تعد بمنأى عن الرقابة التنظيمية الصارمة في أوروبا. فمع تشديد قوانين مثل DSA، يتزايد الضغط على الشركات العالمية للعمل بمسؤولية أكبر وتلبية توقعات المجتمع فيما يتعلق بالأخلاقيات والاستدامة، مما قد يؤثر على مستقبل الأزياء السريعة والاقتصاد الرقمي ككل.




