شهدت مصر، وعلى مدار عقود، تطوراً ملحوظاً في فن القصص المصورة (الكوميكس)، ليتحول من مجرد رسوم ترفيهية للأطفال إلى وسيلة تعبير فني وثقافي غني، يجسد الواقع الاجتماعي والسياسي. تأتي فعاليات النسخة العاشرة من مهرجان القاهرة الدولي للقصص المصورة، الذي انطلقت مؤخراً، لتؤكد على هذا الازدهار المعاصر وتلقي الضوء على مسيرة هذا الفن الطويلة والمتشعبة في البلاد. يمثل المهرجان تجمعاً سنوياً دولياً لرسامي القصص المصورة والمهتمين بها، ويوفر منصة حيوية للتبادل الفني والثقافي.

الجذور التاريخية والرواد الأوائل
تعود جذور فن الكوميكس في مصر إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث ظهرت الرسوم الكاريكاتيرية والساخرة في الصحف والمجلات المصرية كجزء أساسي من المشهد الإعلامي. كانت هذه الرسوم، وإن لم تكن قصصاً مصورة بالمعنى الحديث، تمثل اللبنة الأولى لتطور السرد البصري. مع بدايات القرن العشرين، بدأت تظهر محاولات أكثر تنظيماً للقصص المصورة، غالباً ما كانت في شكل شرائط مصورة قصيرة تتناول قضايا اجتماعية وسياسية بأسلوب فكاهي أو نقدي. من أبرز الرواد الأوائل في هذا المجال هو الفنان محمود سامي، الذي يعتبره الكثيرون أول رسام كوميكس مصري حقيقي، من خلال شخصيته الشهيرة «الرحالة المصري».
كما شهدت فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ظهور شخصيات أيقونية مثل «صاروخ» للفنان أحمد حجازي، والتي ساهمت في ترسيخ فن الكوميكس كوسيلة إعلامية وشعبية. كانت المجلات مثل «المسماة بدمشق» و«الفكاهة» ومن بعدها «روز اليوسف» من أهم المنصات التي احتضنت هذه الأعمال، مما مهد الطريق لظهور مجلات متخصصة في القصص المصورة لاحقاً.
عصر الازدهار والتحديات
شهدت فترة منتصف القرن العشرين، وبالتحديد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، العصر الذهبي للكوميكس في مصر. في هذه الفترة، ظهرت مجلات متخصصة للأطفال حصدت شعبية جارفة، مثل مجلة «سمير» التي أصدرتها دار الهلال عام 1956، ومجلة «ميكي» التي بدأت دار الهلال في إصدارها بنسخة عربية عام 1959 ثم انتقلت لدار نهضة مصر. هذه المجلات لم تقتصر على ترجمة قصص مصورة عالمية، بل قدمت أيضاً أعمالاً مصرية أصيلة، وشجعت جيلاً كاملاً من القراء على حب هذا الفن. كانت مجلة «ماجد» أيضاً، وإن كانت تصدر من دولة الإمارات العربية المتحدة، تحظى بشعبية كبيرة في مصر.
إلا أن فن الكوميكس واجه تحديات كبيرة في أواخر القرن العشرين، تمثلت في تراجع الدعم الحكومي، وتغير الأذواق، وظهور وسائط ترفيهية جديدة مثل التلفزيون وألعاب الفيديو، فضلاً عن الصعوبات الاقتصادية التي أثرت على صناعة النشر. أدى ذلك إلى تراجع إنتاج القصص المصورة المصرية وتضاؤل عدد المجلات المتخصصة.
النهضة المعاصرة والتحول الرقمي
مع بداية الألفية الجديدة، شهد فن الكوميكس المصري نهضة ملحوظة، مدفوعة بشكل كبير بظهور جيل جديد من الفنانين المستقلين واستخدام الإنترنت كوسيلة للنشر والتوزيع. بدأت ورش عمل ومجموعات فنية صغيرة في الظهور، لتعمل على إحياء هذا الفن وتقديم محتوى جديد يتناسب مع قضايا العصر. شخصيات وأعمال مثل «مترو» للفنان ماجد الشافعي، التي أثارت نقاشات واسعة، كانت دليلاً على عودة الكوميكس كمنصة للتعبير الحر والنقد الاجتماعي.
لعبت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تمكين الفنانين من الوصول إلى جمهور أوسع، وتجاوز قيود النشر التقليدية. كما ساهمت هذه النهضة في تنوع أساليب الرسم والسرد، وظهرت أعمال موجهة للكبار تتناول قضايا أكثر عمقاً وتعقيداً، بعيداً عن الصورة النمطية للكوميكس الموجه للأطفال فقط.
مهرجان القاهرة للكوميكس: محطة فنية مهمة
يمثل مهرجان القاهرة الدولي للقصص المصورة (Cairo Comix Festival)، الذي يحتفل هذا العام بنسخته العاشرة، أحد أهم معالم النهضة المعاصرة لفن الكوميكس في مصر والمنطقة. تأسس المهرجان عام 2015 بهدف جمع فناني الكوميكس، وتقديم أعمالهم للجمهور، وتوفير مساحة للتعلم والتبادل الثقافي.
- منصة للفنانين: يوفر المهرجان للفنانين المصريين والعرب والعالميين فرصة لعرض أعمالهم والتواصل مع بعضهم البعض ومع الجمهور.
- تنمية المواهب: يستضيف المهرجان العديد من ورش العمل والمحاضرات التي تهدف إلى تطوير مهارات الرسامين والكتاب الشباب.
- تعزيز الثقافة البصرية: يساهم في نشر الوعي بفن الكوميكس ودوره الثقافي والفني، ويكسر الصورة النمطية عنه.
- جسر للتواصل الدولي: يعمل على ربط فن الكوميكس المصري بحركته العالمية، من خلال استضافة فنانين من مختلف أنحاء العالم.
إن وصول المهرجان إلى نسخته العاشرة هو دليل قاطع على نجاحه واستمراريته، وتأكيد على أن فن الكوميكس في مصر ليس مجرد ذكرى من الماضي، بل هو حركة فنية حيوية ومتجددة.
الأهمية الثقافية والمستقبل
يكتسب فن الكوميكس في مصر أهمية ثقافية متزايدة، فهو ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل مرآة تعكس التحولات المجتمعية، ومنصة للتعبير عن الآراء المختلفة، ووسيلة لتوثيق التاريخ المعاصر. يوفر الكوميكس للفنانين مساحة فريدة لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والشخصية بأسلوب جذاب ومؤثر، يجمع بين الفن البصري والسرد القصصي.
رغم الإنجازات، لا يزال فن الكوميكس في مصر يواجه تحديات، منها الحاجة إلى مزيد من الدعم للمواهب الشابة، وتوسيع قاعدة النشر والتوزيع، وتعزيز الوعي بأهمية هذا الفن كجزء لا يتجزأ من الثقافة المصرية. ومع ذلك، فإن الإقبال المتزايد على المهرجانات، وظهور العديد من الأعمال المبتكرة، يبشر بمستقبل واعد لفن الكوميكس المصري، الذي يستمر في التطور والازدهار ليجد مكانه المستحق على الساحة الفنية والثقافية، محلياً ودولياً.
نُشر في: أكتوبر 2024





