مصر تحقق رقماً قياسياً في احتياطي النقد الأجنبي.. والخبراء يحللون الأسباب
سجل احتياطي النقد الأجنبي لمصر مستوى قياسياً جديداً في أواخر شهر مايو 2024، حيث بلغ صافي الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي المصري نحو 46.1 مليار دولار أمريكي. يمثل هذا الرقم، وهو الأعلى في تاريخ مصر الحديث، مؤشراً قوياً على تعافي الاقتصاد المصري وقدرته على استقطاب التدفقات النقدية الأجنبية، بعد فترة من التحديات الاقتصادية الكبرى. وقد شهد هذا الارتفاع البارز اهتماماً واسعاً من الأوساط الاقتصادية والمالية، التي تسعى لفهم الدوافع الرئيسية وراء هذا الإنجاز وتأثيراته المحتملة على المشهد الاقتصادي للبلاد.

الخلفية والسياق الاقتصادي
مر الاقتصاد المصري بسنوات مضطربة منذ عام 2011، حيث تراجعت الاحتياطيات الأجنبية بشكل ملحوظ تحت وطأة الاضطرابات السياسية والاقتصادية. عانت البلاد من نقص حاد في العملة الصعبة، مما أثر سلباً على قدرة الحكومة على تغطية وارداتها الأساسية وسداد التزاماتها الخارجية، وتسبب في ضغوط كبيرة على سعر صرف الجنيه المصري. في محاولة لمعالجة هذه التحديات، تبنت الحكومة المصرية والبنك المركزي سلسلة من برامج الإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك تحرير سعر الصرف عدة مرات، ورفع أسعار الفائدة، وتقليص الإنفاق العام، بهدف استعادة الثقة وتحفيز الاستثمار.
تُعد احتياطيات النقد الأجنبي ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي لأي دولة، حيث توفر شبكة أمان ضد الصدمات الخارجية، وتضمن قدرة الدولة على تمويل وارداتها، وسداد ديونها الخارجية، وتثبيت سعر صرف عملتها الوطنية. النمو المستمر لهذه الاحتياطيات في مصر يعكس تحولاً إيجابياً في مسارها الاقتصادي، وينبئ بمرحلة جديدة من الاستقرار والنمو.
الأسباب الرئيسية للارتفاع القياسي
يشير الخبراء الاقتصاديون إلى مجموعة من العوامل المتضافرة التي أسهمت في هذا الارتفاع غير المسبوق لاحتياطيات النقد الأجنبي. أبرز هذه العوامل تشمل:
- صفقة رأس الحكمة: تُعتبر هذه الصفقة الاستثمارية الضخمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة بمثابة نقطة تحول حاسمة. فقد ضخت الصفقة نحو 35 مليار دولار إلى الاقتصاد المصري، منها دفعة أولى كبيرة في فبراير ومارس 2024، تبعتها دفعات لاحقة. وفرت هذه السيولة الضخمة دعماً فورياً وقوياً لاحتياطيات البنك المركزي، وعززت الثقة في الاقتصاد المصري.
- برامج الدعم والتمويل الدولي: حصلت مصر على حزمة تمويلية موسعة من صندوق النقد الدولي، رفعت قيمة القرض إلى حوالي 8 مليارات دولار. بالإضافة إلى ذلك، وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة دعم مالي كلية بقيمة 7.4 مليار يورو، ووقع البنك الدولي اتفاقيات تمويل جديدة. هذه البرامج، التي غالباً ما تأتي مشروطة بإصلاحات هيكلية، أسهمت بشكل مباشر في تعزيز الاحتياطيات.
- تحويلات المصريين العاملين بالخارج: شهدت تحويلات المصريين في الخارج انتعاشاً ملحوظاً بعد تحرير سعر الصرف الأخير، حيث فضّل الكثيرون توجيه مدخراتهم عبر القنوات الرسمية للاستفادة من سعر الصرف الجذاب، مما زاد من تدفق العملات الأجنبية إلى البلاد.
- تعافي قطاع السياحة: واصل قطاع السياحة أداءه القوي، مستقطباً أعداداً متزايدة من الزوار وعائداً بمليارات الدولارات من العملات الأجنبية. تُعد السياحة أحد أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر، وقد شهدت استقراراً وتعافياً ملحوظاً بعد جائحة كوفيد-19.
- إيرادات قناة السويس: على الرغم من التحديات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة وتأثيرها على حركة الملاحة العالمية، لا تزال قناة السويس تشكل مصدراً مهماً للدخل بالعملة الصعبة لمصر، وإن كان هناك بعض التراجع في الإيرادات بسبب التوترات.
- الإصلاحات الاقتصادية: لعب التزام الحكومة المصرية بتنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية، بما في ذلك التخلي عن ربط الجنيه بالدولار والانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، وبيع بعض أصول الدولة، دوراً حاسماً في استعادة ثقة المستثمرين وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر.
أهمية الاحتياطي وتأثيره
يُتوقع أن يكون لارتفاع احتياطي النقد الأجنبي تداعيات إيجابية واسعة النطاق على الاقتصاد المصري. فهو يعزز قدرة البنك المركزي على إدارة السياسة النقدية بفعالية أكبر، ويوفر غطاءً كافياً للواردات المصرية (ما يقرب من 8-9 أشهر من الواردات السلعية والخدمية وفقاً لبعض التقديرات، وهو معدل آمن). كما أنه يقلل من مخاطر التخلف عن سداد الديون الخارجية، ويدعم استقرار الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية.
يزيد هذا الإنجاز من ثقة المستثمرين الأجانب والمؤسسات الدولية في الاقتصاد المصري، ويشجع على ضخ المزيد من الاستثمارات التي تحتاجها البلاد لخلق فرص عمل وتحقيق النمو المستدام. كما قد يسهم في تحسين التصنيف الائتماني لمصر، مما يقلل من تكلفة الاقتراض في المستقبل.
توقعات الخبراء والتحديات المستقبلية
على الرغم من التفاؤل الحذر الذي يحيط بهذا الإنجاز، يحذر الخبراء من أن التحديات لا تزال قائمة. يؤكدون على ضرورة استغلال هذه الفرصة لتعميق الإصلاحات الهيكلية، لا سيما تلك المتعلقة ببيئة الأعمال، وتنافسية القطاع الخاص، وتعزيز الصادرات غير البترولية. كما أن معالجة معدلات التضخم المرتفعة وتخفيف عبء الدين العام الخارجي يظلان من الأولويات الملحة.
يشير الخبراء إلى أن استدامة هذا النمو في الاحتياطيات تتطلب مواصلة جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتنويع مصادر الدخل الأجنبي، وتعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الواردات. يبقى الهدف الأسمى هو تحويل هذه المكاسب قصيرة الأجل إلى نمو اقتصادي شامل ومستدام يعود بالنفع على جميع فئات المجتمع المصري.





