مصر والسودان: تداخل المصالح وتحديات الأزمة الراهنة
تُعد العلاقة بين مصر والسودان تاريخيًا وجغرافيًا مصيرية، حيث تتشابك مصالح البلدين بشكل عميق في مجالات الأمن والمياه والاقتصاد. فالسودان ليس مجرد جار جنوبي لمصر، بل هو امتداد استراتيجي حيوي لأمنها القومي، خاصة فيما يتعلق بقضية نهر النيل وأمن الحدود. وعليه، فإن أي اضطراب في السودان يثير قلقًا بالغًا في القاهرة، ويدفعها لاتخاذ مواقف وإجراءات تهدف إلى استقرار الوضع وحماية مصالحها.

خلفية تاريخية وأهمية السودان لمصر
يمتد الارتباط المصري السوداني لآلاف السنين، وتتجلى هذه الروابط في التاريخ المشترك، والروابط الثقافية والاجتماعية المتينة، والأهم من ذلك، الاعتماد المتبادل على مياه نهر النيل الذي يمثل شريان الحياة لكلا البلدين. لطالما نظرت مصر إلى استقرار السودان ووحدته كركيزة أساسية لاستقرار المنطقة بأسرها وأمنها القومي. كما أن السودان يمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر في حوض النيل والقرن الأفريقي، وبوابة مهمة للتجارة والتعاون الإقليمي.
تاريخيًا، سعت مصر دائمًا لدعم حكومة مستقرة وذات سيادة في السودان، تكون قادرة على الحفاظ على الأمن الداخلي والاضطلاع بدور بناء في المنطقة. هذا الدعم لم يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل امتد ليشمل التعاون الاقتصادي والتنموي، وتبادل الخبرات في مجالات متعددة.
اندلاع الأزمة الراهنة وتداعياتها
منذ اندلاع الصراع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 إبريل 2023، تضاعفت مخاوف مصر بشأن مستقبل جارتها الجنوبية. لقد أدت هذه الأزمة إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، ونزوح ملايين الأشخاص داخل السودان وإلى الدول المجاورة، بما في ذلك مصر. وقد شهدت الحدود المصرية السودانية تدفقًا هائلاً للاجئين السودانيين، قدر عددهم بمئات الآلاف في أواخر عام 2023 ومطلع عام 2024، مما وضع ضغطًا كبيرًا على الموارد والخدمات المصرية. بالإضافة إلى ذلك، أثارت الأزمة مخاوف عميقة بشأن:
- أمن الحدود: تزايد مخاطر التسلل وتهريب الأسلحة وانتشار الجماعات المتطرفة.
- التأثير الاقتصادي: تعطل حركة التجارة، وتراجع الاستثمارات، والعبء المتزايد لاستضافة اللاجئين.
- الاستقرار الإقليمي: تهديد بتصاعد الصراعات في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
- قضية سد النهضة: تزايد القلق من أن يؤدي تفكك الدولة السودانية إلى تعقيد الموقف التفاوضي حول سد النهضة الإثيوبي وتأثيراته على حصة مصر من مياه النيل.
الموقف والدور الدبلوماسي المصري
منذ بداية الأزمة، اتسم الموقف المصري بالدعوة الفورية لوقف إطلاق النار والتهدئة، والتأكيد على ضرورة الحل السياسي السلمي الذي يحفظ وحدة السودان وسلامة أراضيه. وقد تجلى الدور المصري في عدة مسارات:
- الدعم الإنساني: قدمت مصر كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية والإغاثية للسودان، وفتحت معابرها الحدودية لعبور اللاجئين وتسهيل وصول المساعدات الدولية. كما سهلت عمليات إجلاء الرعايا الأجانب والمصريين من مناطق الصراع.
- الجهود الدبلوماسية: شاركت مصر بفاعلية في كافة المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة لحل الأزمة، مثل جهود الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) ومحادثات جدة. وقد استضافت القاهرة قمة دول جوار السودان في يوليو 2023، لتوحيد الرؤى والضغط من أجل حل سلمي شامل.
- التأكيد على السيادة: شددت مصر مرارًا على رفض أي تدخلات خارجية في الشأن السوداني، مؤكدة أن الحل يجب أن يكون سودانيًا خالصًا، يلبي تطلعات الشعب السوداني نحو الاستقرار والديمقراطية. وفي سياق هذا التأكيد، ردت الدبلوماسية المصرية على أي محاولات للتشويه أو التشكيك في دورها، موضحة موقفها الثابت والشفاف الذي يهدف فقط إلى دعم الأمن والاستقرار في السودان وحماية مصالحها المشروعة.
- دعوة لإنهاء الصراع: دعت مصر الأطراف المتنازعة إلى الاحتكام لصوت العقل، والجلوس إلى طاولة المفاوضات لتسوية الخلافات، والعمل على تشكيل حكومة مدنية ذات صلاحيات كاملة تقود البلاد نحو مستقبل مستقر ومزدهر.
التحديات والمسارات المستقبلية
تظل الأزمة السودانية تمثل تحديًا كبيرًا لمصر والمنطقة بأسرها، نظرًا لتعدد الأطراف الفاعلة وصعوبة التوصل إلى توافق. ومع استمرار الصراع، تزداد تعقيدات المشهد وتتفاقم الأوضاع الإنسانية. تدرك مصر أن الحل لن يكون سهلاً أو سريعًا، إلا أنها ستستمر في بذل قصارى جهدها على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية لدفع عملية السلام.
تتمثل رؤية مصر للمستقبل في سودان موحد ومستقر وذو سيادة، قادر على تحقيق تطلعات شعبه، وأن يكون شريكًا فاعلاً في تحقيق الأمن والرخاء الإقليمي. وستظل القاهرة تراقب التطورات عن كثب، مع استمرارها في تقديم الدعم الإنساني والدبلوماسي، ورفض أي محاولات لزعزعة استقرار جارتها أو استغلال الأوضاع الراهنة لتحقيق مصالح ضيقة على حساب الشعب السوداني.





