معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية: 60 دولة توقع على الاتفاقية التاريخية
في تطور هام للجهود الدولية الرامية لمواجهة التحديات المتزايدة للجرائم الإلكترونية، وقعت ستين دولة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض إجرامية. وقد جرى حفل التوقيع على هذه المعاهدة، التي تُعد الأولى من نوعها على مستوى الأمم المتحدة، في شهر فبراير من عام 2024 في نيويورك، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في التعاون العالمي لمكافحة التهديدات السيبرانية المتنامية. تمثل هذه الخطوة تتويجًا لسنوات من المفاوضات الشاقة والجهود الدبلوماسية الرامية لإنشاء إطار قانوني شامل وفعال لمعالجة هذه الظاهرة العابرة للحدود.
خلفية الحاجة الملحة للمعاهدة
تزايدت الجرائم الإلكترونية بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، لتصبح تهديدًا عالميًا لا يفرق بين الحدود الجغرافية أو الأنظمة السياسية. تتراوح هذه الجرائم بين الاحتيال المالي، وسرقة البيانات، والهجمات السيبرانية على البنى التحتية الحيوية، وصولًا إلى استغلال الأطفال عبر الإنترنت ونشر المحتوى غير القانوني. وقد كشفت الطبيعة العابرة للحدود لهذه الأنشطة الإجرامية عن قصور في التشريعات الوطنية وقدرة الدول منفردة على ملاحقة الجناة، الذين غالبًا ما يعملون من ولايات قضائية مختلفة.
على الرغم من وجود بعض الأطر القانونية الدولية، مثل اتفاقية بودابست بشأن الجرائم الإلكترونية، فإن هذه الاتفاقيات لم تحقق عالمية المشاركة المطلوبة، حيث تقتصر عضويتها بشكل رئيسي على الدول الأوروبية وعدد قليل من الدول الأخرى، مما ترك فجوة كبيرة في التعاون الدولي. ونتيجة لذلك، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2019 إلى إنشاء لجنة خبراء لوضع معاهدة دولية شاملة تحت مظلتها، بهدف توفير أداة قانونية عالمية تضمن مشاركة أوسع من جميع مناطق العالم وتلبي الاحتياجات المتنوعة للدول الأعضاء.
بنود الاتفاقية ومحاورها الرئيسية
تهدف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية من خلال مجموعة من البنود والمحاور، والتي تشمل:
- تجريم الأفعال السيبرانية: تحدد المعاهدة قائمة واسعة من الأفعال التي تعتبر جرائم إلكترونية، مثل الدخول غير المشروع إلى أنظمة الحاسوب، واعتراض البيانات، وتخريب البيانات، وسوء استخدام الأجهزة، وجرائم الاحتيال الإلكتروني، والجرائم المتعلقة بمحتوى استغلال الأطفال جنسيًا عبر الإنترنت. وتهدف هذه البنود إلى توحيد تعريفات الجرائم لتسهيل التعاون القانوني.
- تعزيز التعاون الدولي: تضع الاتفاقية آليات قوية للتعاون بين الدول الأطراف، بما في ذلك المساعدة القانونية المتبادلة في التحقيقات والملاحقات القضائية، وتسليم المجرمين، وتبادل المعلومات في الوقت الفعلي، وتشكيل فرق تحقيق مشتركة.
- إجراءات التحقيق وجمع الأدلة الرقمية: توفر المعاهدة إطارًا لتمكين سلطات إنفاذ القانون من جمع الأدلة الرقمية والاحتفاظ بها وتأمينها، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالإجراءات القانونية وحقوق الإنسان خلال هذه العمليات.
- تدابير حماية الضحايا: تتضمن الاتفاقية أحكامًا تهدف إلى مساعدة وحماية ضحايا الجرائم الإلكترونية، بما في ذلك توفير قنوات للإبلاغ عن الجرائم وتقديم الدعم للضحايا.
عملية التوقيع والتحديات التي واجهتها
بعد سنوات من المفاوضات المكثفة التي اتسمت بالتعقيد والخلافات، أُقر مشروع المعاهدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في يناير 2024، ليفتح الباب أمام التوقيع عليه. وعلى الرغم من النجاح في الوصول إلى نص توافقي، لم تخلُ عملية الصياغة والمفاوضات من تحديات كبيرة وجدل واسع.
برزت مخاوف عديدة من قبل منظمات المجتمع المدني وبعض الدول بشأن بعض البنود، وخاصة تلك المتعلقة بـصلاحيات الوصول إلى البيانات والتعريفات الواسعة لبعض الجرائم، والتي قد تُساء استخدامها لتقييد الحريات الرقمية أو استهداف المعارضين السياسيين في بعض الدول. كما أثيرت قضايا تتعلق بـالسيادة الوطنية للدول في مقابل الحاجة إلى الوصول العابر للحدود للبيانات. وقد عكست هذه الانقسامات التحدي الدائم المتمثل في الموازنة بين ضرورة مكافحة الجريمة وضمان احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الفضاء الرقمي.
الآثار والتداعيات المستقبلية
يمثل التوقيع على معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية خطوة تاريخية نحو بناء جبهة عالمية موحدة ضد التهديدات السيبرانية. من المتوقع أن تعزز هذه الاتفاقية من قدرة الدول على التعاون في التحقيقات وملاحقة المجرمين، وتوحيد الأطر القانونية، وبالتالي خلق بيئة رقمية أكثر أمنًا. وبمجرد دخولها حيز النفاذ، بعد تصديق عدد كافٍ من الدول عليها، ستوفر أداة قوية لتبادل المعلومات وتقديم المساعدة القانونية المتبادلة، مما يصعب على الجناة الاختباء وراء الحدود الوطنية.
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة تنتظر المعاهدة. أولها، هي عملية التصديق، حيث يتطلب الأمر من الدول الموقعة إتمام الإجراءات القانونية الداخلية اللازمة لتصبح أطرافًا كاملة في الاتفاقية. ثانيًا، يتعلق الأمر بـالتطبيق الفعال وضمان أن يتم تنفيذ بنود المعاهدة بطريقة تحترم حقوق الإنسان وتوازن بين متطلبات الأمن ومبادئ الخصوصية والحريات الأساسية. وأخيرًا، يجب أن تكون الاتفاقية قابلة للتكيف مع التطورات التكنولوجية السريعة للحفاظ على فعاليتها على المدى الطويل.
بشكل عام، تُعد هذه المعاهدة إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا، فهي تجسد التزام المجتمع الدولي بالتصدي لجريمة معاصرة تتجاوز الأطر التقليدية. وعلى الرغم من التحديات المحتملة، فإنها تضع الأساس لتعاون دولي غير مسبوق في مكافحة الجرائم الإلكترونية، وهو أمر ضروري لضمان أمن واستقرار الفضاء السيبراني العالمي.




