معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية: توقيع تاريخي من 60 دولة لتعزيز التعاون العالمي
في خطوة محورية نحو مواجهة التهديدات الرقمية المتزايدة، شهد يوم 19 فبراير 2024 توقيع ستين دولة على معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية. يمثل هذا الاتفاق التاريخي بداية لجهد عالمي منسق يهدف إلى إنشاء إطار قانوني شامل للتصدي للجرائم التي تستهدف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تتسبب في خسائر بمليارات الدولارات سنويًا وتؤثر على ملايين الأفراد والمنظمات حول العالم.
الخلفية والسياق
تزايدت حدة وتنوع الجرائم الإلكترونية بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، لتشمل هجمات الفدية، وسرقة البيانات، والاحتيال الإلكتروني، والابتزاز، وانتشار البرمجيات الخبيثة. على الرغم من وجود اتفاقيات سابقة مثل اتفاقية بودابست بشأن الجرائم الإلكترونية، إلا أن نطاقها الجغرافي كان محدودًا، ولم تحظ بمشاركة واسعة من العديد من الدول، خاصة في الجنوب العالمي، مما ترك فجوات كبيرة في التعاون الدولي.
أدركت الأمم المتحدة الحاجة الملحة إلى صك قانوني دولي يكون شاملًا وعالميًا حقًا. في عام 2019، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة مخصصة لصياغة اتفاقية دولية شاملة لمكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض إجرامية. استغرقت المفاوضات عدة سنوات وشهدت مناقشات مكثفة حول قضايا حساسة مثل السيادة الوطنية، وحماية حقوق الإنسان، ونطاق الاختصاص القضائي، وتعريفات الجرائم الإلكترونية.
تم اعتماد النص النهائي للاتفاقية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في يناير 2024 بعد جولات عديدة من المحادثات التي عُقدت في فيينا ونيويورك. وقد صُممت الاتفاقية لتكون أداة فعالة لتمكين الدول من التعاون بشكل أفضل في التحقيقات والملاحقات القضائية للجرائم الإلكترونية عبر الحدود.
الأحكام الرئيسية والأهداف
تهدف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية من خلال أحكامها المتنوعة:
- تجريم أفعال معينة: تتضمن الاتفاقية قائمة واسعة من الأفعال التي يجب على الدول تجريمها في تشريعاتها الوطنية، مثل الوصول غير المشروع إلى أنظمة الحاسوب، والتدخل في البيانات والأنظمة، وسوء استخدام الأجهزة، وجرائم المحتوى (مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال عبر الإنترنت)، وجرائم الاحتيال المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات.
- التعاون الدولي: تعزز الاتفاقية التعاون القضائي المتبادل، وتبادل المعلومات، والمساعدة الفنية، وتسهيل عمليات تسليم المجرمين بين الدول لمكافحة الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود. وتتضمن أحكامًا لتيسير الاستجابة السريعة لطلبات البيانات العاجلة.
- إجراءات التحقيق: تمنح الدول صلاحيات تحقيقية واسعة، بما في ذلك جمع البيانات المرورية، والاحتفاظ بالبيانات المخزنة، والتفتيش وضبط أنظمة الحاسوب، والجمع الفوري لبيانات المحتوى.
- بناء القدرات والمساعدة الفنية: تلتزم الدول المتقدمة بمساعدة الدول النامية في تعزيز قدراتها التشريعية والمؤسسية والفنية لمكافحة الجرائم الإلكترونية بفعالية.
- حماية حقوق الإنسان: تشدد الاتفاقية على ضرورة احترام مبادئ سيادة القانون وحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الخصوصية وحرية التعبير، أثناء تنفيذ أحكامها.
التحديات والمخاوف
على الرغم من التوقيع التاريخي، واجهت عملية صياغة الاتفاقية وتواجه تحديات ومخاوف عديدة. كانت هناك انقسامات جيوسياسية كبيرة بين الدول، خاصة فيما يتعلق بتعريف الجرائم الإلكترونية، ونطاق السلطات التي تمنحها للمحققين، وآليات حماية البيانات والخصوصية. أعربت منظمات المجتمع المدني وجماعات حقوق الإنسان عن قلقها من أن بعض الأحكام قد تُستخدم لقمع المعارضة أو تبرير المراقبة الجماعية في بعض الدول، مشددة على أهمية الضمانات القوية لحقوق الإنسان.
كما أن تطبيق الاتفاقية سيتطلب تنسيقًا كبيرًا بين الأنظمة القانونية المختلفة، ومواجهة تحديات تتعلق بالاختصاص القضائي في الفضاء الرقمي الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية التقليدية.
الأهمية والتأثير المتوقع
يمثل التوقيع على هذه المعاهدة لحظة فارقة لأنها توفر الإطار الأول من نوعه الذي يحظى بقبول عالمي واسع لمكافحة الجرائم الإلكترونية. من المتوقع أن تؤدي إلى:
- تعزيز الأمن السيبراني العالمي: بتوحيد الجهود التشريعية والتحقيقية، يمكن أن تصبح الشبكة العنكبوتية أكثر أمانًا للمستخدمين والشركات.
- تحسين العدالة الجنائية: ستسهم في تسهيل ملاحقة المجرمين الإلكترونيين عبر الحدود، وتقليل الملاذات الآمنة لهم.
- دعم الدول النامية: من خلال أحكام بناء القدرات، يمكن أن تساعد الدول ذات الموارد المحدودة على تطوير دفاعاتها وقدراتها على الاستجابة للجرائم الإلكترونية.
يعتبر هذا التوقيع خطوة أولى وحاسمة. سيتعين على الدول الآن المصادقة على الاتفاقية وفقًا لإجراءاتها الدستورية الوطنية. ستبدأ الاتفاقية في النفاذ بعد أن تستكمل عدد معين من الدول عملية التصديق، مما يمهد الطريق لتطبيق أحكامها عمليًا على الساحة الدولية.





