من الألم إلى الإلهام: ناجيات سرطان الثدي يستخدمن الفن للتعبير والتشافي
في خطوة تعكس المرونة البشرية وقدرتها على تجاوز أشد المحن، شهدت تونس مؤخرًا مبادرة فنية فريدة من نوعها، حيث جمعت مسرحية موسيقية بعنوان “ملحمة الحياة” عشرين ناجية من سرطان الثدي. لم تكن هذه المسرحية مجرد عرض فني، بل كانت منصة قوية حولت قصص الألم والتحدي إلى لوحات نابضة بالأمل والإصرار، مؤكدة أن الفن يمكن أن يكون الملاذ والمنقذ في رحلة التشافي الطويلة.

الخلفية: رحلة الشفاء والتحديات النفسية
يُعد سرطان الثدي من الأمراض التي لا تترك آثارًا جسدية فحسب، بل تمتد لتطال الجانب النفسي والاجتماعي للمريضة. غالبًا ما تواجه الناجيات تحديات كبيرة تتراوح بين صورة الجسد، والاكتئاب، والقلق، والخوف من الانتكاس. تقليديًا، تركز الرعاية الصحية على الجوانب الطبية، لكن هناك إدراك متزايد لأهمية الدعم النفسي والاجتماعي الشامل. هنا يأتي دور الفنون العلاجية كأداة قوية لمساعدة الناجيات على معالجة صدماتهن، استعادة ثقتهن بأنفسهن، وإيجاد صوت جديد لتجاربهن.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الانخراط في الأنشطة الفنية مثل الرسم، الموسيقى، والرقص، يمكن أن يقلل من مستويات التوتر ويحسن من جودة الحياة للناجيات، وذلك بمنحهن مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر المعقدة التي قد يصعب التعبير عنها بالكلمات. إن هذه الممارسات لا تساهم في التنفيس العاطفي فحسب، بل تعزز أيضًا من الشعور بالانتماء المجتمعي والدعم المتبادل بين الأفراد الذين يمرون بتجارب مماثلة.
"ملحمة الحياة": تجربة تونسية رائدة
تجسدت هذه الفكرة العلاجية في تونس من خلال مسرحية “ملحمة الحياة”، وهي عمل فني موسيقي طموح شاركت فيه عشرون امرأة قد انتصرن على سرطان الثدي. لم تكن هؤلاء النساء فنانات محترفات بالضرورة، بل كن أفرادًا عاديين قررن الوقوف على خشبة المسرح ليروين قصصهن. المسرحية، التي استوحت ألحانها من “الفصول الأربعة” الشهيرة للمؤلف الموسيقي الإيطالي أنطونيو فيفالدي، مزجت بين الموسيقى الكلاسيكية والرقص التعبيري والسرد القصصي، لخلق تجربة عاطفية عميقة تلامس القلوب.
- التحضير والتمكين: امتدت فترة التحضير لهذه المسرحية لعدة أشهر، تضمنت تدريبات مكثفة على الغناء والرقص والتمثيل، بقيادة مدربين متخصصين في فنون الأداء والعلاج بالفن. لم يقتصر الهدف على إنتاج عرض فني جميل، بل كان الأهم هو تمكين المشاركات من خلال العملية الإبداعية نفسها. خلال هذه التدريبات، استطاعت الناجيات أن يكسرن حاجز الخوف والعزلة، وأن يتبادلن التجارب، وأن يبنين شبكة دعم قوية فيما بينهن.
- رحلة رمزية: كان العرض الأخير بمثابة تتويج لرحلة شخصية وجماعية، حيث تجسد كل فصل من فصول فيفالدي مرحلة من مراحل الشفاء: من اليأس والألم في فصل الشتاء، إلى التجدد والأمل في فصل الربيع، مرورًا بالتحديات والانتصارات في الصيف والخريف. كل حركة وكل نغمة كانت تحمل رسالة قوة وإصرار، تجسد الصراع الداخلي والانتصار الخارجي على المرض.
القصص الشخصية: قوة الفن في التحول
روَت العديد من المشاركات كيف أن الفن أعادهن إلى الحياة. فبعضهن كن قد فقدن ثقتهن بأجسادهن بعد الجراحة أو العلاج الكيميائي، لكن الرقص والموسيقى ساعدتهن على استعادة الإحساس بالجسد كأداة للتعبير لا كمصدر للألم. أخريات وجدن في الغناء وسيلة لتفريغ المشاعر المكبوتة، من الغضب والحزن إلى الفرح والامتنان. لقد أثبتت هذه التجربة أن الفن ليس مجرد هواية، بل هو علاج يلامس أعماق الروح ويعيد تعريف العلاقة بين الفرد وجسده وتجربته.
من خلال مشاركتهن في “ملحمة الحياة”، لم تجد الناجيات فقط ملاذًا علاجيًا، بل وجدن أيضًا صوتًا قويًا. قصصهن، التي تم سردها بصدق وشجاعة على خشبة المسرح، ساهمت في كسر حاجز الصمت المحيط بسرطان الثدي، وألهمت الكثير من النساء الأخريات لمواجهة تحدياتهن بشجاعة أكبر، مدركات أنهن لسن وحدهن في هذه الرحلة.
الأثر والتأثير المجتمعي
كان تأثير المسرحية متعدد الأوجه. على المستوى الفردي، شهدت المشاركات تحسنًا ملحوظًا في حالتهن النفسية والاجتماعية، وزيادة في تقدير الذات والشعور بالتمكين. على المستوى المجتمعي، نجحت المسرحية في رفع مستوى الوعي حول أهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي والفحص الذاتي الدوري، وهي رسالة حيوية تم تضمينها بوضوح في ختام كل عرض. الرسالة كانت واضحة ومباشرة: التشخيص المبكر ينقذ الأرواح، والتجارب الشخصية للناجيات هي أقوى دليل على ذلك.
لاقى العرض تفاعلًا كبيرًا من الجمهور والإعلام، ما ساعد في توسيع نطاق تأثيره، وجعل من تجربة “ملحمة الحياة” نموذجًا يحتذى به في استخدام الفنون في دعم مرضى السرطان والناجيات منه، وفتح حوارًا أوسع حول أهمية الدعم النفسي والاجتماعي في رحلة الشفاء.
آفاق مستقبلية ودعوات عالمية
لا تقتصر هذه المبادرات على تونس؛ ففي جميع أنحاء العالم، تتزايد البرامج التي تستخدم الفن كشكل من أشكال العلاج والدعم لمرضى السرطان. من ورش العمل الفنية في المستشفيات إلى العروض المسرحية والموسيقية، تثبت هذه التجارب أن الشفاء لا يقتصر على الجانب الجسدي، بل يشمل الروح والعقل أيضًا. تدعو هذه المبادرات إلى دمج الفنون العلاجية بشكل أوسع ضمن بروتوكولات الرعاية الصحية المتكاملة، لتقديم دعم شامل للمرضى والناجيات على حد سواء.
تؤكد قصة “ملحمة الحياة” أن الإبداع قادر على تحويل أصعب التجارب إلى مصادر للقوة والأمل، وأن الشجاعة الحقيقية تكمن في تحويل الألم إلى فن يضيء دروب الآخرين. وهي دعوة لكل امرأة لإيلاء الاهتمام بصحتها، وللمجتمعات لتقديم الدعم اللازم للناجيات من الأمراض، ولهن لامتلاك زمام قصصهن والتعبير عنها بأقوى الطرق الممكنة، لتكن الفن لغة عالمية للتشافي والتمكين.





