من صراع الشام إلى مقاومة ثقافية بالطهي في سيدني: هل يُختزل الوطن في لقمة العيش؟
في ظل التحديات التي يفرضها النزوح والبعد عن الأوطان، تشهد المجتمعات السورية في المهجر تحولات عميقة في مفهوم الهوية والانتماء. تتجه الأنظار مؤخرًا إلى الجالية السورية في مدينة سيدني الأسترالية، حيث بات الطهي التقليدي يمثل أكثر من مجرد إعداد وجبات؛ فقد تحوّل إلى شكل من أشكال المقاومة الثقافية التي تطرح سؤالاً وجوديًا حول طبيعة الوطن ذاته في عصر النزاعات العالمية. هذه الظاهرة تثير تساؤلاً جوهريًا: هل يتجسد الوطن في نهاية المطاف بلقمة العيش؟

الخلفية: الأزمة السورية والنزوح
تعود جذور هذه التحولات إلى الأزمة الطاحنة التي تشهدها سوريا منذ عام 2011، والتي أدت إلى موجات نزوح ولجوء غير مسبوقة. ترك ملايين السوريين ديارهم، تاركين خلفهم ذكريات وأماكن وأساليب حياة. هذا النزوح القسري أوجد تحديات هائلة تتعلق بالحفاظ على الهوية الثقافية والتراث، لا سيما في الأجيال الجديدة التي تنشأ بعيدًا عن أرض الأجداد. ففي مواجهة هذا الفقد، تبحث المجتمعات عن روابط ملموسة تحافظ على استمرارية الإرث الثقافي.
الطهي كمقاومة ثقافية في سيدني
في سيدني، أخذت الجالية السورية على عاتقها مهمة إحياء المطبخ السوري العريق، ليس كخدمة غذائية فحسب، بل كمنصة للمقاومة الثقافية. باتت المطاعم السورية، ومشاريع الطهي المنزلية، والفعاليات المجتمعية التي تتمحور حول الطعام، مراكز حيوية تجمع أفراد الجالية وتعزز روابطهم. على سبيل المثال، مبادرات مثل "مطابخ الشام" و "لمة أهل حلب"، التي انطلقت قبل نحو ثلاث سنوات، لم تقدم فقط أطباقًا شهية، بل قدمت مساحات آمنة لتبادل القصص والذكريات، وتعليم الأجيال الشابة فنون الطهي التقليدية التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الهوية السورية.
يعتبر الطهي هنا وسيلة لتحدي النسيان والتهميش. فكل طبق يحمل قصة، وكل نكهة تستحضر ذكرى، وكل وصفة تمرر إرثًا من جيل إلى جيل. إنه فعل صمود وتأكيد على الوجود، يرمم الجسور الثقافية التي دمرتها الحرب والبعد الجغرافي. بهذه الطريقة، لا يقتصر الطهي على إشباع الحاجة البيولوجية للطعام، بل يغذي الروح والذاكرة الجماعية.
الوطن في لقمة العيش: دلالات متعددة
يطرح عنوان الظاهرة سؤالاً عميقًا حول ما إذا كان الوطن يُختزل في لقمة العيش. هذا التساؤل يحمل دلالات متعددة:
- البعد الوجودي والواقعي: بالنسبة للعديد من اللاجئين، كان البحث عن لقمة العيش الآمنة هو الدافع الأول للنزوح. وفي ظل ظروف الفقر والصراع، يصبح الوطن في أذهان البعض مرتبطًا بالقدرة على توفير الأساسيات للحياة.
- البعد الرمزي والثقافي: في المهجر، حيث يتلاشى الاتصال المادي بالوطن، تصبح الروائح والنكهات المألوفة هي الملاذ الأخير. فالطبق التقليدي يحمل في طياته تاريخًا، وجغرافيا، وعادات، ومناسبات اجتماعية. إنه بمثابة قطعة صغيرة محمولة من الوطن الكبير، يمكن تذوقها واستشعارها.
- تحول المفهوم: قد لا يعني هذا الاختزال أن الوطن فقد قيمته العظمى، بل أن مفهومه قد تحول. فبدلاً من أن يكون كيانًا جغرافيًا وسياسيًا ثابتًا، أصبح تجربة محسوسة ومتبادلة، يمكن بناؤها والحفاظ عليها من خلال الأفعال الثقافية اليومية كالطهي.
التأثير المجتمعي والآفاق المستقبلية
لا تقتصر آثار هذه المقاومة الثقافية على حفظ الهوية فحسب، بل تمتد لتشمل جوانب اجتماعية واقتصادية هامة. توفر مشاريع الطهي فرص عمل للاجئين وتساهم في اندماجهم الاقتصادي بالمجتمع المضيف. كما أنها تعزز التفاهم الثقافي بين الجالية السورية والمجتمعات الأسترالية الأخرى، حيث يُصبح الطعام سفيرًا للثقافة والتاريخ السوري الغني.
مع استمرار حالة النزوح وتأقلم الأجيال الجديدة، من المرجح أن يستمر دور الطهي كحارس للهوية ومجدد لمفهوم الوطن. إنه يعكس مرونة الإنسان في مواجهة الشدائد وقدرته على إعادة تشكيل عالمه الرمزي. إن ما يحدث في سيدني، من خلال أطباق الكبة والفتات والمحاشي، هو شهادة على أن الوطن قد يتغير في شكله، ولكنه نادرًا ما يموت في الروح والذاكرة، بل يجد طرقًا جديدة ليتجلى، حتى لو كان ذلك في لقمة تسد جوع الجسد والروح على حد سواء.





