إسرائيل ترفع حالة التأهب في الجنوب تزامناً مع مظاهرة حاشدة للحريديم
شهدت إسرائيل مؤخرًا تطورين رئيسيين، يعكس كل منهما جانبًا مختلفًا من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها. فمن جانب، وافق وزير الدفاع الإسرائيلي على توصية الجيش بإنهاء «الوضع الخاص في الجبهة الداخلية بجنوب البلاد»، في خطوة تشير إلى تراجع مستوى التهديدات الأمنية. ومن جانب آخر، اجتاحت شوارع إحدى المدن الرئيسية مظاهرة ضخمة للحريديم (اليهود الأرثوذكس المتشددين)، احتجاجًا على مساعي تجنيدهم في الجيش الإسرائيلي، في قضية لطالما مثلت انقسامًا عميقًا في المجتمع الإسرائيلي.

رفع حالة التأهب في الجنوب
يأتي قرار إنهاء «الوضع الخاص» في الجبهة الداخلية الجنوبية، والذي يُعرف أيضًا باسم «حالة التأهب» أو «الطوارئ»، استنادًا إلى تقييمات أمنية تشير إلى استقرار نسبي. ويُمنح هذا الوضع، عند تفعيله، سلطات وصلاحيات واسعة لقوات الأمن وقيادة الجبهة الداخلية، بما في ذلك القدرة على فرض قيود على التجمعات، وإغلاق الطرق، وتعطيل الدراسة في المؤسسات التعليمية، وتعديل جداول المواصلات العامة، بهدف حماية السكان المدنيين خلال فترات التوتر الأمني الشديد أو العمليات العسكرية. وعادة ما يُفرض هذا الإجراء في أعقاب هجمات صاروخية مكثفة من قطاع غزة أو خلال تصعيد عسكري واسع النطاق.
يمثل رفع هذا الوضع إشارة إلى ثقة المؤسسة الأمنية في تراجع التهديد المباشر للمجتمعات الجنوبية، مما يسمح بعودة الحياة إلى طبيعتها الكاملة دون الحاجة إلى إجراءات استثنائية. ورغم ذلك، تظل حالة اليقظة الأمنية قائمة، مع استمرار الاستعداد لأي تطورات محتملة. يُعد هذا القرار خطوة نحو استعادة الاستقرار والروتين اليومي للمواطنين في المناطق المتأثرة، وتخفيف العبء النفسي واللوجستي الناجم عن حالة الطوارئ.
مظاهرة الحريديم الحاشدة
في تطور متزامن، شهدت شوارع إحدى المدن الإسرائيلية، على الأرجح القدس أو بني براك، تجمعًا هائلًا لليهود الحريديم، في مظاهرة قدر منظموها عدد المشاركين فيها بمئات الآلاف، بل وصلت التقديرات إلى مليون شخص. جاءت هذه المظاهرة للاحتجاج بقوة على الجهود المتواصلة لإلزامهم بالخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، وهي قضية تضرب بجذورها في أعماق التكوين الاجتماعي والسياسي للدولة.
خلفية أزمة التجنيد
تتمتع الأغلبية الساحقة من الشبان الحريديم بإعفاءات من الخدمة العسكرية منذ عقود، لتمكينهم من التفرغ لدراسة التوراة في المعاهد الدينية (الييشيفات). وقد كانت هذه الإعفاءات مُقننة جزئيًا بموجب «قانون تال» الذي انتهى العمل به في عام 2012، ومنذ ذلك الحين، فشلت الحكومات المتعاقبة في التوصل إلى صيغة قانونية تحظى بقبول واسع لتنظيم مسألة تجنيد الحريديم.
- الأساس الديني: يرى الحريديم أن دراسة التوراة هي جوهر وجودهم ومساهمتهم الروحية في حماية إسرائيل، وأنها لا تقل أهمية عن الخدمة العسكرية. ويعتبرون التجنيد قسرًا لهم وتحديًا لهويتهم الدينية المتميزة ونمط حياتهم المنعزل عن المجتمع العلماني.
- التحديات القانونية: قضت المحكمة العليا الإسرائيلية مرارًا بعدم دستورية الإعفاءات الشاملة للحريديم من الخدمة العسكرية، معتبرة إياها تمييزًا يمس بمبدأ المساواة. هذه الأحكام وضعت الحكومات تحت ضغط متزايد لتشريع قانون جديد يلبي متطلبات المساواة وفي نفس الوقت يأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمع الحريدي.
- الانقسام المجتمعي: يُعد هذا الملف أحد أبرز مصادر التوتر بين التيار الحريدي وبقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك العلمانيون والقوميون المتدينون، الذين يرون ضرورة تقاسم الأعباء وتجنيد جميع المواطنين القادرين.
- التأثير السياسي: غالبًا ما يكون ملف تجنيد الحريديم عاملًا حاسمًا في تشكيل الائتلافات الحكومية واستقرارها، حيث تتمتع الأحزاب الحريدية بنفوذ سياسي كبير وتعد هذه القضية خطًا أحمر بالنسبة لها.
جاءت المظاهرة الأخيرة في سياق تجدد المحاولات التشريعية لحل هذه الأزمة، أو في أعقاب اقتراب مواعيد نهائية قضائية، مما يدفع المجتمع الحريدي إلى حشد صفوفه للتعبير عن رفضه التام لأي قانون يهدد بإلغاء إعفاءاتهم.
دلالات وتداعيات
تعكس هذه التطورات المزدوجة صورة معقدة لإسرائيل، حيث تتشابك التحديات الأمنية الخارجية مع الانقسامات الاجتماعية والسياسية الداخلية. ففي حين يشير رفع حالة التأهب في الجنوب إلى القدرة على إدارة التهديدات الخارجية والعودة إلى بعض أشكال الاستقرار، تُبرز مظاهرة الحريديم الكبرى استمرار الصراعات الداخلية على الهوية الوطنية، ومشاركة الأعباء، ودور الدين في الدولة.
لا ترتبط القضيتان بشكل مباشر من حيث الأسباب، إلا أنهما تحدثان ضمن سياق وطني واحد، وتؤثران على النسيج الاجتماعي والسياسي. فبينما تسعى إسرائيل إلى تأمين حدودها، تستمر في مواجهة تحدي بناء توافق داخلي حول قضايا جوهرية، مما يجعل المشهد الداخلي ديناميكيًا ومتقلبًا باستمرار.





