احتفالية مئوية جاذبية سري: نظرة التشكيليين إلى إرثها الفني
يوافق اليوم، الحادي عشر من أكتوبر عام 2025، الذكرى المئوية لميلاد الفنانة التشكيلية المصرية الرائدة جاذبية سري، التي رحلت عن عالمنا تاركةً خلفها إرثاً فنياً غنياً ومتفرداً. تعد هذه المناسبة فرصة حاسمة لاستكشاف كيف ينظر الفنانون التشكيليون والنقاد المعاصرون إلى مسيرتها الفنية الحافلة، وإلى أي مدى لا يزال تأثيرها يتردد صداه في المشهد الفني الحالي، خاصة وأنها تُصنف كواحدة من أبرز رائدات الفن التشكيلي في مصر والوطن العربي على الإطلاق.
مئوية رائدة الفن التشكيلي
ولدت جاذبية سري في 11 أكتوبر 1925، وعاشت حياة مديدة خصصتها للفن، لتصبح بمرور الزمن رمزاً للإبداع والتفرد. تحتفي الأوساط الفنية اليوم بمئوية ميلادها، ليس فقط لتذكر أعمالها الخالدة، بل لتسليط الضوء على الأبعاد العميقة التي أضافتها إلى الفن المصري والعربي الحديث. يمثل هذا التاريخ علامة فارقة تدعو إلى إعادة قراءة أعمالها في سياقات جديدة، وتأمل في مدى استمراريتها وتأثيرها على الأجيال اللاحقة من الفنانين.
مسيرة فنية رائدة وتأثير عميق
تميزت مسيرة جاذبية سري بالجرأة والتطور المستمر. بدأت رحلتها الأكاديمية في المعهد العالي للفنون الجميلة للبنات بالقاهرة، وتلقت منحاً دراسية مكنتها من صقل موهبتها في العواصم الفنية الأوروبية مثل باريس ولندن وروما. هذه التجارب أثرت رؤيتها، لكنها لم تبعدها عن جوهر هويتها المصرية الأصيلة. كانت سري من الفنانات القلائل اللواتي تحدين التقاليد الاجتماعية في عصرها، مكرسة حياتها بالكامل لرسالتها الفنية.
تطورت أعمالها من المرحلة الواقعية والتعبيرية المبكرة، التي كانت تركز على تجسيد تفاصيل الحياة اليومية في المجتمع المصري، وتصوير الوجوه المليئة بالقصص، إلى مراحل أكثر تجريدية، لكنها لم تفقد يوماً صلتها بالهم الإنساني والاجتماعي. أعمالها جسدت ببراعة مشاهد المدن المكتظة، ومعاناة الإنسان، وقضايا المرأة، بأسلوب يجمع بين القوة والشفافية. كانت لوحاتها بمثابة مرآة تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية في مصر، مقدمةً رؤى عميقة بفرشاة جريئة وألوان حيوية.
تمكنت سري من خلق لغة بصرية خاصة بها، تتجاوز التصنيفات التقليدية، حيث مزجت بين التقنيات الغربية الحديثة والروح الشرقية الأصيلة. استخدامها المتميز للألوان الجريئة والخطوط القوية، وتكويناتها الفريدة التي غالباً ما كانت تتضمن عناصر معمارية وإنسانية متداخلة، جعل أعمالها تتميز بعمق فكري وجمالي فريد، ورسخت مكانتها كفنانة جمعت ببراعة بين الأصالة والمعاصرة.
جاذبية سري في عيون التشكيليين المعاصرين
عندما ينظر التشكيليون المعاصرون إلى أعمال جاذبية سري اليوم، فإنهم يرون فيها أكثر من مجرد لوحات جميلة؛ يرون فيها دروساً في الشجاعة الفنية والالتزام الاجتماعي. يشيد العديد منهم بقدرتها على البقاء وفية لرؤيتها الفنية الخاصة، حتى في ظل التحولات والتحديات التي شهدها عالم الفن. يرى فنانون مثل الدكتورة أمل نصر، أستاذة الفنون الجميلة، أن سري لم تكن مجرد رسامة، بل كانت "مؤرخة للمشاعر الإنسانية والتحولات المجتمعية بفرشاة فنانة"، وأن أعمالها لا تزال تُلهم أجيالاً جديدة لاستكشاف هويتها الفنية.
يركز الفنانون والنقاد على كيفية قدرة أعمالها على التواصل مع الجمهور في عصرنا الحالي، معتبرين أن المواضيع التي تناولتها، مثل التمدد العمراني، والتغيرات الاجتماعية، والصمود الإنساني، لا تزال ذات أهمية قصوى. يُنظر إلى جاذبية سري اليوم كجسر يربط بين الأجيال، حيث قدمت نموذجاً للفنانة التي تستطيع أن تخاطب العالم بلغتها المحلية، وأن تفرض بصمتها على الساحة الفنية العالمية دون التنازل عن جوهرها.
يمثل إرثها الفني مصدر إلهام كبيراً، لا سيما للفنانات الشابات اللواتي يجدن في مسيرتها نموذجاً للثبات والإصرار. إنها تذكرهم بأن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير الشخصي، بل هو أيضاً أداة قوية للمساهمة في الحوارات الثقافية والاجتماعية الكبرى. أعمالها، التي تُعرض في كبرى المتاحف والمعارض حول العالم، لا تزال تُباع بأسعار مرتفعة، مما يؤكد قيمتها الفنية والتاريخية المستمرة.
مكانة خالدة في التاريخ الفني
تبقى جاذبية سري شخصية محورية في بانوراما الفن التشكيلي المصري والعربي. إن احتفالنا بمئوية ميلادها ليس مجرد تذكير بتاريخ، بل هو تجديد لالتزامنا بتقدير الرؤى الفنية العميقة التي قدمتها. لقد تركت بصمة لا تُمحى، ليس فقط في لوحاتها، بل في الروح الفنية التي ألهمت أجيالاً. فنانة بحجم جاذبية سري لا تُنسى، بل تُعاد اكتشافها وتُقدر قيمتها مع كل جيل جديد، لتظل منارة تضيء دروب الإبداع في المستقبل.





