التنافس الأمريكي الصيني: رحلة من التعاون التنموي إلى المواجهة الشاملة
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تحولاً جذرياً خلال العقدين الماضيين، منتقلةً من شراكة اقتصادية كانت تُبنى على أمل أن يؤدي الانفتاح الاقتصادي إلى تغيير سياسي في بكين، إلى حالة من المنافسة الاستراتيجية الشاملة. هذا التحول العميق يعيد تشكيل النظام العالمي ويضع العالم أمام واقع جديد تهيمن عليه المواجهة بين أكبر اقتصادين في العالم في مجالات متعددة تشمل التجارة والتكنولوجيا والنفوذ الجيوسياسي.

خلفية تاريخية: من الانخراط إلى الاحتواء
لعقود طويلة، اتبعت واشنطن سياسة "الانخراط" مع بكين، وهي استراتيجية تبلورت بشكل خاص بعد زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون التاريخية للصين في عام 1972. كانت الفرضية الأساسية هي أن دمج الصين في الاقتصاد العالمي، والذي تُوّج بانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، سيشجعها على تبني إصلاحات سياسية داخلية والتحول إلى قوة مسؤولة على الساحة الدولية. وبالفعل، حققت الصين خلال هذه الفترة نمواً اقتصادياً هائلاً أخرج مئات الملايين من مواطنيها من دائرة الفقر وأصبحت "مصنع العالم".
إلا أن صعود الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة في عام 2012 مثّل نقطة تحول رئيسية. تخلت بكين تدريجياً عن سياسة "الإخفاء والتريث" التي انتهجها القادة السابقون، وبدأت في تبني دور أكثر حزماً على الساحة العالمية. تجلى ذلك في مشاريع ضخمة مثل مبادرة الحزام والطريق، وتوسيع الوجود العسكري في بحر الصين الجنوبي، وتكثيف الضغط على تايوان. هذا التوجه دفع صناع القرار في واشنطن إلى إعادة تقييم شاملة، حيث بات يُنظر إلى الصين ليس كشريك، بل كمنافس استراتيجي يسعى إلى تغيير قواعد النظام الدولي القائم.
أبعاد الصراع الرئيسية
تتخذ المنافسة بين القوتين أشكالاً متعددة ومعقدة، ويمكن تلخيص أبرز ساحاتها في النقاط التالية:
- الحرب التجارية والاقتصادية: بدأت في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب عبر فرض رسوم جمركية واسعة النطاق على السلع الصينية لمعالجة العجز التجاري الأمريكي وممارسات بكين التجارية غير العادلة، مثل سرقة الملكية الفكرية. ورغم تغير الإدارة، استمرت إدارة الرئيس جو بايدن في اتباع نهج متشدد، مع التركيز على حماية الصناعات الحيوية وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية.
- سباق التفوق التكنولوجي: يُعتبر هذا الميدان الأكثر حدة في الصراع. تقود الولايات المتحدة حملة لتقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة، خاصة في مجال أشباه الموصلات (الرقائق الإلكترونية)، وفرضت قيوداً صارمة على شركات مثل هواوي لمنعها من الهيمنة على شبكات الجيل الخامس (5G). في المقابل، تضخ الصين استثمارات هائلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي والريادة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.
- التنافس الجيوسياسي والعسكري: تعد قضية تايوان النقطة الأكثر خطورة في العلاقات، حيث تعتبرها بكين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، بينما تدعمها واشنطن عسكرياً. كما يتجلى التنافس في بحر الصين الجنوبي ومن خلال سعي الولايات المتحدة لتعزيز تحالفاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر تكتلات مثل تحالف أوكوس (AUKUS) والحوار الأمني الرباعي (الكوادر) الذي يضم اليابان والهند وأستراليا.
- المواجهة الأيديولوجية: يمثل الصراع أيضاً تصادماً بين نموذجين مختلفين للحكم: الديمقراطية الليبرالية التي تروج لها الولايات المتحدة، ونظام الحزب الواحد السلطوي في الصين. وتنتقد واشنطن باستمرار سجل بكين في حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بمعاملة أقلية الأويغور في شينجيانغ وقمع الحريات في هونغ كونغ.
التطورات الأخيرة والمستقبل
على الرغم من حدة التنافس، شهدت الفترة الأخيرة محاولات دبلوماسية من الجانبين لإدارة الخلافات ومنعها من الخروج عن السيطرة. فقد أدت زيارات مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة جانيت يلين، إلى بكين خلال العامين الماضيين، إلى استئناف بعض قنوات الاتصال. الهدف المعلن من هذه الحوارات ليس حل الخلافات الجوهرية، بل وضع "حواجز أمان" لمنع المنافسة من التحول إلى صراع مباشر.
ومع ذلك، لا تزال الديناميكية الأساسية قائمة على المواجهة. فواشنطن مستمرة في استراتيجية "تقليل المخاطر" (de-risking) بدلاً من الانفصال الكامل (decoupling)، مما يعني مواصلة القيود التكنولوجية المستهدفة. من جانبها، تواصل الصين مساعيها لتعزيز اقتصادها وقدراتها العسكرية لمواجهة الضغوط الأمريكية. تشير كل المعطيات إلى أن هذا التنافس طويل الأمد سيحدد معالم السياسة الدولية لعقود قادمة، وسيفرض على دول العالم اتخاذ مواقف صعبة في خضم هذا الاستقطاب العالمي.





