في الأشهر الأخيرة، شهدت الساحة الاقتصادية والوظيفية تحولاً ملفتاً للنظر، حيث بدأت شركات كبرى، لا سيما في قطاعات التكنولوجيا والإعلام والخدمات، تستخدم الذكاء الاصطناعي كمبرر رئيسي لعمليات تسريح واسعة النطاق للموظفين. هذا التوجه أثار جدلاً واسعاً حول مدى صحة هذه المبررات وما إذا كان الذكاء الاصطناعي هو المحرك الحقيقي الوحيد لخفض الوظائف، أم أنه بات ذريعة ملائمة لتغطية عوامل اقتصادية وتنظيمية أخرى.

الشركات الكبرى تتذرع بالذكاء الاصطناعي لتسريح آلاف الموظفين
خلفية الظاهرة وتزايدها
تزايد الاهتمام بالذكاء الاصطناعي، وخاصة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، بشكل ملحوظ في أواخر عام 2023 ومطلع عام 2024. تزامن هذا التطور التكنولوجي مع ضغوط اقتصادية عالمية، بما في ذلك ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وتباطؤ النمو في بعض القطاعات بعد فترة من التوسع السريع. خلال جائحة كورونا، قامت العديد من الشركات بتوظيف أعداد كبيرة من الموظفين لمواكبة الطلب المتزايد على الخدمات الرقمية. ومع عودة الأوضاع لطبيعتها وتراجع هذا الطلب، وجدت الشركات نفسها أمام ضرورة إعادة الهيكلة وخفض التكاليف. في هذا السياق، برز الذكاء الاصطناعي كعامل جديد يمكن أن يفسر هذه التغييرات، مقدماً سردية مقنعة لتبسيط عمليات التسريح المعقدة.
مبررات الشركات: الكفاءة أم الذريعة؟
تؤكد الشركات التي تعتمد على هذه الحجة أن الذكاء الاصطناعي يعزز الكفاءة التشغيلية بشكل غير مسبوق، مما يمكنه من أتمتة المهام المتكررة والمستهلكة للوقت. وتزعم هذه الشركات أن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكنها أداء مهام مثل تحليل البيانات، وإنشاء المحتوى، ودعم العملاء، وحتى بعض جوانب تطوير البرمجيات، بشكل أسرع وأكثر فعالية من البشر. ونتيجة لذلك، تقل الحاجة إلى القوى العاملة البشرية في هذه الأدوار، مما يؤدي إلى خفض الوظائف.
ومع ذلك، يرى العديد من الخبراء ونشطاء حقوق العمال أن الذكاء الاصطناعي غالباً ما يُستخدم كـ«شماعة» لتبرير قرارات تسريح الموظفين التي قد تكون مدفوعة في الواقع بعوامل أخرى. وتشمل هذه العوامل:
- التباطؤ الاقتصادي: حيث تواجه الشركات تحديات في النمو والأرباح، مما يدفعها لخفض النفقات.
- إعادة الهيكلة التنظيمية: تغيير أولويات الشركات أو دمج الأقسام، مما يلغي الحاجة لبعض الوظائف.
- التعويض عن التوظيف المفرط: تصحيح المسار بعد فترات من التوسع السريع والتوظيف الزائد.
- الاستثمار في مجالات جديدة: تحويل الموارد المالية والبشرية نحو قطاعات نمو محتملة، على حساب أخرى.
يشكك هؤلاء في أن الذكاء الاصطناعي وحده هو السبب الرئيسي وراء كل عمليات التسريح المعلنة، مشيرين إلى أن تأثيره الحقيقي على سوق العمل لا يزال في مراحله الأولية وقد يكون أكثر تعقيداً من مجرد إحلال مباشر للوظائف.
قطاعات ووظائف متأثرة
تتركز عمليات التسريح التي تُعزى إلى الذكاء الاصطناعي في عدة قطاعات رئيسية:
- صناعة التكنولوجيا: على الرغم من كونها رائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، إلا أن العديد من عمالقة التكنولوجيا قامت بتسريح أعداد كبيرة من الموظفين في أدوار مثل إدارة المشاريع، الدعم الفني، وبعض جوانب الهندسة، بدعوى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقلل من الحاجة إلى هذه الوظائف.
- القطاع الإعلامي والإبداعي: شهدت شركات النشر والمؤسسات الإعلامية الكبرى حالات تسريح لمحررين وكتّاب ومصممين، مع الإشارة إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد المحتوى وتحليل البيانات بكفاءة.
- خدمة العملاء والإدارة: تُعد مراكز الاتصال والوظائف الإدارية الروتينية من أكثر المجالات عرضة للأتمتة بواسطة الذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى تقليل الحاجة للموظفين في هذه الأقسام.
- التحليل المالي والبيانات: يمكن للذكاء الاصطناعي معالجة كميات هائلة من البيانات المالية بشكل أسرع من البشر، مما يثير تساؤلات حول مستقبل بعض وظائف محللي البيانات.
الآثار وردود الفعل
أدت هذه التطورات إلى زيادة القلق بشأن الأمن الوظيفي وإمكانية حدوث تحولات هيكلية في سوق العمل. يشعر الموظفون بالتهديد، وتتزايد الدعوات للحكومات والشركات للاستثمار في برامج إعادة التدريب وتنمية المهارات لمساعدة القوى العاملة على التكيف مع متطلبات الوظائف الجديدة التي قد يخلقها الذكاء الاصطناعي. كما أثارت النقابات العمالية والمنظمات الحقوقية مخاوف بشأن الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه التسريحات، مطالبة بمزيد من الشفافية من الشركات حول الأسباب الحقيقية لقراراتها.
يرى بعض الخبراء أن التركيز يجب أن يكون على كيفية استغلال الذكاء الاصطناعي لتعزيز القدرات البشرية بدلاً من استبدالها، والدعوة إلى نهج يدمج التكنولوجيا مع العمالة البشرية لتحقيق أفضل النتائج، وليس مجرد خفض التكاليف على حساب الوظائف.
الآفاق المستقبلية
من المرجح أن يستمر الجدل حول الدور الحقيقي للذكاء الاصطناعي في عمليات تسريح الموظفين. يتوقع المحللون أن الذكاء الاصطناعي سيحدث تحولاً كبيراً في طبيعة العمل، حيث ستصبح بعض المهام قديمة، بينما ستظهر وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة. التحدي الأكبر يكمن في إدارة هذا الانتقال بفعالية لضمان ألا تترك أعداد كبيرة من العمال دون فرص. سيكون على الشركات والحكومات والأفراد أن يتعاونوا للتخطيط لمستقبل العمل الذي يتزاوج فيه الابتكار التكنولوجي مع الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية، مع التأكيد على أهمية الشفافية في تحديد الأسباب الحقيقية وراء أي قرار بتسريح العمالة.



