الفاشر: حقيقة صور الأقمار الصناعية وتضليل "المقابر الجماعية"
في خضم المعارك العنيفة التي شهدتها مدينة الفاشر السودانية مؤخراً، انتشرت على نطاق واسع صور مأخوذة عبر الأقمار الصناعية زُعم أنها تكشف عن مقابر جماعية، مما أثار قلقاً دولياً ومحلياً. إلا أن تحقيقات معمقة أجرتها منصات أوروبية متخصصة في التحقق من المصادر المفتوحة، كشفت أن هذه الادعاءات كانت جزءاً من حملة تضليل إعلامي، وأن الصور المتداولة تم تفسيرها بشكل خاطئ تماماً لخدمة السرديات السياسية للصراع الدائر.

خلفية الادعاءات والسياق العسكري
تصاعدت حدة القتال حول الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مما تسبب في أزمة إنسانية حادة ونزوح الآلاف من المدنيين. وفي ظل شح المعلومات الموثوقة من الميدان بسبب الحصار وصعوبة الوصول، برزت صور الأقمار الصناعية كمصدر رئيسي للمعلومات. خلال هذه الفترة، بدأت حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنافذ الإعلامية في تداول صور تظهر ما وصف بأنه "أراضٍ تم نبشها حديثاً" أو "حفر كبيرة". وسرعان ما تم ربط هذه الصور باتهامات موجهة لقوات الدعم السريع بارتكاب فظائع وإنشاء مقابر جماعية سرية لدفن الضحايا.
تحليل الصور وكشف الحقيقة
قامت فرق التحقق المتخصصة بتحليل دقيق لهذه الصور باستخدام بيانات فضائية عالية الدقة ومقارنتها بصور تاريخية للمواقع نفسها. وكشفت النتائج، التي نُشرت في تقارير إعلامية أوروبية خلال يونيو 2024، عن حقيقة مغايرة تماماً للادعاءات. فقد أظهر التحليل الفني أن التشكيلات التي وصفت بأنها "مقابر جماعية" كانت في الواقع ظواهر مختلفة لا علاقة لها بالنزاع، ومنها:
- تجمعات للماشية: في إحدى أبرز الحالات، تبين أن ما قيل إنها "بقع دماء" أو "أرض محروثة" كانت في الحقيقة آثاراً لتجمعات كبيرة لقطعان من الماشية حول مصادر المياه، وهو مشهد نمطي ومألوف في المناطق الرعوية بإقليم دارفور.
- تضاريس طبيعية: في حالات أخرى، كانت "الحفر" المزعومة مجرد تضاريس طبيعية أو ظلال ناتجة عن زاوية التقاط الصور، والتي تم تضخيمها وتفسيرها بشكل مضلل.
- أنشطة زراعية قديمة: بعض الصور أظهرت علامات لأنشطة زراعية أو عمرانية سابقة للنزاع، تم تقديمها على أنها أدلة حديثة على ارتكاب جرائم.
وأكد المحللون أن تفسير صور الأقمار الصناعية يتطلب خبرة فنية عالية وفهماً عميقاً للسياق الجغرافي والبيئي للمنطقة، وهو ما افتقرت إليه التفسيرات المتسرعة التي انتشرت على الإنترنت.
أهمية الواقعة وتأثير التضليل الإعلامي
تُعد هذه الحادثة مثالاً واضحاً على كيفية استخدام التضليل الإعلامي كسلاح في الحروب الحديثة. ففي ظل نزاع مثل الذي يشهده السودان، حيث الوصول الميداني للصحفيين والمراقبين محدود للغاية، يصبح الفضاء الرقمي ساحة معركة رئيسية لتشكيل الرأي العام والتأثير على المواقف الدولية. إن نشر مثل هذه الادعاءات الكاذبة لا يهدف فقط إلى تشويه سمعة طرف على حساب الآخر، بل يؤدي أيضاً إلى عواقب وخيمة، مثل تأجيج الكراهية العرقية والقبلية في إقليم دارفور الذي يمتلك تاريخاً مؤلماً من العنف الأهلي. كما أنه يصرف الانتباه عن الانتهاكات الحقيقية والموثقة التي يرتكبها الطرفان، ويقوض مصداقية المنظمات الإنسانية والتوثيق الحقوقي الجاد. وفي المحصلة، تشدد هذه الواقعة على ضرورة التزام أقصى درجات الحذر والتحقق المهني قبل قبول أو نشر المعلومات القادمة من مناطق النزاع، خاصة تلك التي تعتمد على أدلة بصرية يمكن تأويلها بطرق متعددة.




