الفن مسئولية وطنية لتشكيل الوعي، لا مجرد ترفيه، تؤكد رئيسة أكاديمية الفنون
في لقاء تلفزيوني حديث، أكدت الدكتورة غادة جبارة، رئيسة أكاديمية الفنون، تحول جوهري في نظرة المؤسسة لدور الفن في المجتمع. وصرحت بأن الفن لم يعد يقتصر على كونه وسيلة للترفيه أو التسلية، بل ارتقى ليصبح مسئولية وطنية محورية تهدف إلى تشكيل وعي الشعوب وبناء الشخصية الوطنية. جاء هذا التصريح خلال حوارها في برنامج «البعد الرابع» الذي يُبث على قناة إكسترا نيوز، حيث ناقشت الدور الاستراتيجي للأكاديمية في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة ودعم الهوية الثقافية.

التحول في مفهوم الفن ودوره المجتمعي
لطالما ارتبط الفن في أذهان الكثيرين بالجانب الترفيهي البحت، كالمسرحيات والأفلام والموسيقى التي تقدم هروبًا مؤقتًا من واقع الحياة أو مصدرًا للاستمتاع. ومع ذلك، تشير الدكتورة غادة جبارة إلى أن هذه النظرة لم تعد تتناسب مع التحديات الراهنة أو الطموحات المستقبلية للمجتمعات. ففي عالم يتسم بتدفق المعلومات المتسارع وتنوع المؤثرات الثقافية، يصبح دور الفن أكثر تعقيدًا وأهمية. إنه يتجاوز مجرد المتعة ليشمل المساهمة الفعالة في صياغة الفكر النقدي، وتعميق الحس الوطني، وتعزيز القيم الإيجابية.
هذا التحول يستند إلى إدراك أن الفن يمتلك قوة فريدة للتأثير على الوجدان والعقل، مما يجعله أداة بالغة الأهمية في العملية التنموية الشاملة. فمن خلال الأعمال الفنية المختلفة، يمكن طرح القضايا الاجتماعية والسياسية الملحة، وتوفير مساحة للحوار والتفكير العميق، وتوثيق التراث الثقافي للأجيال القادمة. كما يلعب الفن دورًا حيويًا في بناء الجسور بين الثقافات المختلفة، وفي الوقت نفسه، يعزز الانتماء للثقافة الوطنية ويحميها من الذوبان.
دور أكاديمية الفنون في تحقيق هذه الرؤية
بصفتها مؤسسة تعليمية وفنية رائدة، تتولى أكاديمية الفنون مهمة محورية في ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس. وقد استعرضت رئيسة الأكاديمية جهود المؤسسة في هذا الصدد، والتي تتضمن:
- تطوير المناهج الدراسية: إعادة صياغة البرامج التعليمية لتشمل التركيز على البعد الوطني والاجتماعي للفن، وتدريب الطلاب ليس فقط على المهارات الفنية، بل على كيفية استخدام فنهم كأداة للتعبير الهادف والمؤثر.
- برامج التوعية المجتمعية: إطلاق مبادرات وورش عمل تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع، لتعزيز الوعي بقضايا الهوية الوطنية والتحديات الفكرية من خلال الفنون المختلفة مثل المسرح التفاعلي، السينما الوثائقية، والمعارض الفنية.
- دعم الإبداع الهادف: تشجيع الأعمال الفنية التي تتناول قضايا وطنية واجتماعية، وتقديم الدعم للفنانين الذين يسعون لاستخدام فنهم كمنبر للتغيير الإيجابي والتعبير عن الوجدان الجمعي.
- الشراكات البحثية والثقافية: التعاون مع مؤسسات فكرية وبحثية أخرى لدراسة تأثير الفن على الوعي العام وتطوير استراتيجيات مبتكرة لتعظيم هذا الدور.
تؤكد الدكتورة غادة جبارة أن الأكاديمية تسعى لأن تكون منارة للإبداع الهادف، وأن تُخرج أجيالًا من الفنانين الذين يدركون عمق مسئوليتهم تجاه مجتمعهم ووطنهم. الهدف هو تخريج فنانين ليسوا مجرد مبدعين جماليين، بل هم أيضًا مفكرون ومؤثرون يسهمون في بناء مجتمع أكثر وعيًا وتماسكًا.
الأبعاد الوطنية والثقافية لتشكيل الوعي
إن مفهوم الفن كمسؤولية وطنية لتشكيل الوعي يتصل ارتباطًا وثيقًا بعدة أبعاد:
- تعزيز الهوية الوطنية: الفن يلعب دورًا لا غنى عنه في صون التراث الثقافي وتجديده، مما يعزز الشعور بالانتماء والفخر بالهوية الوطنية في مواجهة التحديات الثقافية الخارجية.
- مواجهة التطرف الفكري: بتقديم رؤى بديلة وقيم إنسانية سامية، يمكن للفن أن يكون خط دفاع أول ضد الأفكار المتطرفة والهدامة التي تستهدف عقول الشباب.
- تنمية التفكير النقدي: الفن الجاد يدعو إلى التأمل والتساؤل، ويحفز الجمهور على التفكير خارج الأطر التقليدية، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر قدرة على التحليل والتمييز.
- توثيق التاريخ المعاصر: من خلال الأفلام الوثائقية، الأعمال الأدبية، والمسرحيات، يوثق الفن الأحداث الجارية ويعكس نبض الشارع، ليصبح مرآة للتاريخ الحي ومصدرًا للأجيال القادمة.
تعتبر هذه الرؤية دعوة لجميع المعنيين بالثقافة والفن، سواء كانوا فنانين، مؤسسات تعليمية، أو حتى الجمهور العادي، لإعادة تقييم دور الفن في حياتنا. إنها دعوة للاستثمار في الفن ليس كقطاع ترفيهي فحسب، بل كركيزة أساسية للتنمية البشرية والوطنية.
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من الأهمية المتزايدة لهذا الدور، إلا أن تحقيق هذه الرؤية لا يخلو من التحديات. يتطلب الأمر دعمًا مستمرًا من الدولة والمجتمع المدني، وتخصيص موارد كافية لتطوير البنية التحتية الفنية والثقافية، وتشجيع المواهب الشابة. كما يتطلب تغييرًا في الذهنية العامة، لكي يُنظر إلى الفن كقوة دافعة للتغيير الاجتماعي الإيجابي، وليس مجرد نشاط ثانوي أو كمالي.
تتطلع أكاديمية الفنون، بقيادة الدكتورة غادة جبارة، إلى مستقبل يكون فيه الفن جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والتربوي، ومحركًا رئيسيًا لتنمية الوعي والفكر. هذا التوجه يمثل استثمارًا في العقول والأرواح، ورهانًا على قدرة الإبداع البشري على بناء مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا للوطن. إنها قناعة بأن الفن الحق هو الذي لا يكتفي بإمتاع الروح، بل يسعى أيضًا لإنارة العقل وتوجيه البوصلة الأخلاقية والوطنية.





