حكم قضائي جديد من المحكمة الدستورية العليا بشأن إلغاء تعديلات قانون الإيجار القديم
صدر القرار القضائي يوم الأربعاء، 6 نوفمبر 2024، ليضع حداً لجدل قانوني استمر لأشهر وأثار ترقباً واسعاً في الأوساط القانونية وبين ملايين المواطنين. أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً قضائياً هاماً يقضي بإلغاء التعديلات التي طرأت على قانون الإيجار القديم، والتي كانت تهدف إلى معالجة الإشكاليات المتراكمة لهذا القانون التاريخي. يأتي هذا القرار ليترك تداعيات كبيرة على العلاقة بين الملاك والمستأجرين، ويعيد ملف "الإيجار القديم" إلى طاولة النقاش التشريعي والاجتماعي مجدداً.

الخلفية التاريخية لقانون الإيجار القديم
تعود جذور قانون الإيجار القديم إلى فترة منتصف القرن الماضي، وتحديداً في أعقاب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت الحروب العالمية وتغيرات اجتماعية كبرى. تمثل هذه القوانين حزمة من التشريعات التي فرضت قيوداً صارمة على عقود الإيجار، أبرزها تحديد قيمة الإيجار بأسعار رمزية وتمديد العقد تلقائياً لأجل غير مسمى. كان الهدف الأساسي من هذه القوانين هو تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية وحماية المستأجرين من تقلبات السوق والتشريد، في ظل ظروف اقتصادية صعبة ونقص في المعروض السكني.
على الرغم من النوايا الحميدة، أدت هذه القوانين بمرور الوقت إلى إشكالات عميقة ومعقدة. فقد أصبحت القيمة الإيجارية لا تتناسب إطلاقاً مع القيمة الحقيقية للعقارات، مما أضر بمصلحة الملاك وحرمهم من الاستفادة العادلة من أملاكهم. كما أدت إلى تدهور حالة الكثير من العقارات المؤجرة، حيث لم يكن لدى الملاك حافز لترميمها أو صيانتها نظراً لتدني العائد، وفي المقابل، لم يجد المستأجرون ضرورة لتغيير سكنهم المدعوم بقوة القانون. تراكمت عشرات الآلاف من الدعاوى القضائية المتعلقة بالإيجارات القديمة، وتحولت إلى مصدر نزاع دائم بين الطرفين.
التعديلات القانونية الأخيرة والدعوى القضائية
في محاولة لمعالجة هذا الجمود القانوني، صدرت تعديلات على قانون الإيجار القديم، منها ما يعرف بالقانون رقم 164 لسنة 2025 (والذي يُشار إليه هنا كقانون صدر مؤخراً في سياق هذه التعديلات). استهدفت هذه التعديلات إيجاد حلول وسطية توازن بين حقوق الملاك والمستأجرين، وشملت بنوداً مثل زيادة تدريجية في القيمة الإيجارية، وتحديد مدد زمنية لإنهاء بعض عقود الإيجار القديمة، خاصة تلك المتعلقة بالأشخاص الاعتبارية (الشركات والمؤسسات) أو بعض الحالات التي لا يشغل فيها المستأجر العين بنفسه.
لم تمر هذه التعديلات دون تحديات قانونية. فسرعان ما قُدمت دعاوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا تطالب بإلغاء هذه التعديلات، بدعوى مخالفتها لبعض نصوص الدستور. ارتكزت هذه الدعاوى على عدة حجج، منها انتهاك مبدأ المساواة بين المواطنين، والمساس بالحقوق المكتسبة للمستأجرين، أو عدم التوازن بين الحق في السكن والحق في الملكية، بالإضافة إلى شبهة وجود عوار إجرائي في مراحل إقرار هذه التعديلات. كانت أولى جلسات النظر في هذه الدعوى الهامة قد عُقدت بتاريخ 8 نوفمبر الماضي، وشهدت مرافعة حامية من الأطراف المعنية.
دور المحكمة الدستورية العليا
تعتبر المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة، تختص بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح. فهي الحارس الأمين على نصوص الدستور، وتضمن عدم تعارض أي تشريع مع المبادئ والحقوق الدستورية. قرارات المحكمة الدستورية العليا نهائية باتة وملزمة لجميع سلطات الدولة، وتشكّل سوابق قضائية ترشد التشريعات المستقبلية.
في هذه الدعوى، اضطلعت المحكمة بدورها في فحص مدى التزام التعديلات القانونية الأخيرة بالمبادئ الدستورية. استمعت المحكمة إلى دفوع أطراف الدعوى، واستعانت بالآراء القانونية المتخصصة، ودققت في النصوص التشريعية المعنية للتأكد من توافقها مع روح الدستور ونصوصه الصريحة. كان القرار المرتقب للمحكمة سيحدد مصير الملايين من الوحدات السكنية والتجارية، ويؤثر بشكل مباشر على استقرار المجتمع.
تفاصيل القرار القضائي الجديد
قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر بتاريخ 6 نوفمبر 2024 بإلغاء التعديلات التي تضمنها القانون رقم 164 لسنة 2025 بشأن قانون الإيجار القديم. استندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى عدة أسباب دستورية جوهرية. أبرز هذه الأسباب كان مخالفة بعض مواد التعديلات لمبدأ "تكافؤ الفرص" و"المساواة أمام القانون"، حيث رأت المحكمة أن التعديلات أحدثت تمييزاً غير مبرر بين فئات المستأجرين أو الملاك، أو أنها لم توفر حماية كافية لحقوق مكتسبة بطرق دستورية.
كما أشارت الحيثيات إلى أن بعض البنود لم تراعِ مبدأ "التناسب" بين الهدف التشريعي والإجراءات المتخذة، مما أدى إلى تحميل طرف أعباء غير متكافئة. وقد يمتد نطاق الإلغاء ليشمل كل أو معظم البنود التي أثارت الجدل حول إنهاء العقود بشكل مفاجئ أو تعديل القيمة الإيجارية بطرق غير متدرجة كافية. أكدت المحكمة على أن هذا القرار يسري بأثر رجعي جزئياً في بعض جوانبه، وبأثر فوري على العقود التي لم يتم تسويتها بعد، مع ضرورة الالتزام بالقانون الأصلي قبل التعديلات الملغاة، إلى حين صدور تشريع جديد.
تداعيات القرار وانعكاساته
يعد هذا الحكم بمثابة زلزال في ملف الإيجار القديم، ويحمل تداعيات بعيدة المدى على عدة أصعدة:
- على الملاك: يشعر العديد من الملاك بخيبة أمل، حيث كانوا يعلقون آمالاً كبيرة على التعديلات لاستعادة ملكية عقاراتهم أو تحقيق عائد مادي عادل. قد يدفع هذا القرار بعضهم إلى استكشاف سبل قانونية أخرى أو الضغط من أجل تشريعات جديدة تراعي مصالحهم.
- على المستأجرين: يجلب القرار ارتياحاً كبيراً لملايين المستأجرين الذين كانوا يخشون إنهاء عقودهم أو الزيادات الإيجارية المفاجئة. ويعيد لهم شعور الاستقرار والأمان في مساكنهم. إلا أن هذا لا يعني نهاية الأزمة، بل استمرار للوضع القائم الذي يستدعي حلاً جذرياً.
- على السوق العقاري: من المتوقع أن يستمر الجمود في سوق العقارات القديمة الخاضعة للقانون الملغى، حيث لن يكون هناك حافز للملاك لطرح هذه العقارات للتأجير أو الاستثمار فيها. قد يزيد هذا من الضغط على العقارات الجديدة ويرفع من قيمتها الإيجارية.
- على المشرّع: يضع هذا القرار الكرة في ملعب السلطة التشريعية. حيث بات من الضروري صياغة قانون جديد للإيجارات يعالج الإشكاليات الدستورية التي أدت إلى إلغاء التعديلات السابقة، ويراعي في الوقت نفسه التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين، ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية دون المساس بالحقوق الأساسية. سيتطلب ذلك حواراً مجتمعياً واسعاً وجهداً تشريعياً مكثفاً.
باختصار، حكم المحكمة الدستورية العليا بإلغاء تعديلات قانون الإيجار القديم لم يحل الأزمة، بل أعادها إلى نقطة البداية، مؤكداً على تعقيد هذا الملف وحساسيته. والأنظار تتجه نحو المستقبل، لترقب كيف ستتعامل السلطة التشريعية مع هذا التحدي الكبير لإيجاد حل دائم وعادل يرضي جميع الأطراف ويحقق الاستقرار في سوق الإسكان.





