علي جمعة يحدد الضوابط الشرعية للأفعال البدعية في الموالد
في تصريحات متجددة تبرز أهمية الشريعة الإسلامية في تنظيم الممارسات الدينية، أوضح الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، الحكم الشرعي المتعلق بالأفعال التي تُصنَّف كـ "بدع" ضمن احتفالات الموالد النبوية وغيرها من المناسبات الدينية. تأتي هذه التوضيحات في سياق الجدل الدائر حول مدى مشروعية بعض الممارسات التي تصاحب هذه الاحتفالات، مؤكدة على ضرورة التمييز بين ما هو مقبول شرعًا وما قد يخرج عن إطار السنة.

خلفية الاحتفال بالموالد والجدل الدائر
تُعد احتفالات الموالد، وأبرزها المولد النبوي الشريف، مناسبات دينية يحتفل فيها المسلمون بذكرى ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وتُقام هذه الاحتفالات في العديد من الدول الإسلامية والعربية بطرق متنوعة، تشمل قراءة القرآن، الإنشاد الديني، تلاوة السيرة النبوية، إطعام الطعام، والتذكير بفضائل النبي. وعلى الرغم من شيوع هذه الاحتفالات وتجذرها في الثقافة الإسلامية لقرون، إلا أنها ظلت موضوع نقاش فقهي بين العلماء.
ينقسم العلماء في نظرتهم للموالد إلى عدة آراء:
- فريق يرى أن الاحتفال بالموالد بدعة محرمة، لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة.
- فريق آخر، والذي يتبناه الأزهر الشريف ومعظم المؤسسات الدينية التقليدية، يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي جائز ومستحب، ويصنفه ضمن "البدعة الحسنة" إذا خلا من المخالفات الشرعية، لأنه يخدم غرضًا شرعيًا عظيمًا وهو تذكر النبي ومدحه والتعلم من سيرته.
وتتركز رؤية الفريق الثاني على أن العبرة ليست في شكل الاحتفال بحد ذاته، بل في مضمونه وما يشتمل عليه من أفعال. وهذا ما يسعى الدكتور علي جمعة لتوضيحه ووضع ضوابط له.
رؤية الدكتور علي جمعة للضوابط الشرعية
بصفته أحد أبرز المرجعيات الدينية في مصر والعالم الإسلامي، يؤكد الدكتور علي جمعة على أن أصل الاحتفال بالموالد، كذكرى لتكريم النبي صلى الله عليه وسلم وتجديد للعهد بسنته، هو أمر مشروع بل ومستحب. لكنه يشدد في الوقت ذاته على ضرورة الالتزام بالضوابط الشرعية الصارمة لضمان عدم تحول هذه الاحتفالات إلى ممارسات مخالفة للدين. ويوضح أن الأفعال البدعية التي تقع في الموالد يمكن تقسيمها إلى نوعين رئيسيين:
أولاً: الأفعال البدعية الحسنة والمشروعة (الجائزة)
يشمل هذا النوع من الأفعال كل ما يتفق مع مقاصد الشريعة ولا يخالف نصًا صريحًا، ويكون القصد منه التقرب إلى الله وذكره وتذكر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك:
- قراءة القرآن الكريم: وهي من أعظم القربات في كل وقت ومكان.
- إنشاد المدائح النبوية: طالما كانت خالية من الغلو المنهي عنه شرعًا، وتقتصر على التعبير عن الحب والتعظيم اللائق بمقام النبوة.
- التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفضائله: من خلال المحاضرات والدروس الدينية التي تعزز الفهم الصحيح للإسلام.
- إطعام الطعام والصدقة: وهما من الأعمال الصالحة التي حث عليها الإسلام.
- مجالس الذكر: التي يتم فيها التسبيح والتهليل والصلاة على النبي.
يرى جمعة أن هذه الأفعال وإن لم تكن قد وُجدت على هيئتها الحالية في زمن النبي والصحابة، إلا أنها تدخل ضمن عموم المستحبات وتؤدي إلى خير عظيم، وتُعتبر بدعة حسنة لا بأس بها.
ثانياً: الأفعال البدعية المذمومة والمحرمة
يُحذر الدكتور علي جمعة بشدة من الممارسات التي تتجاوز الحدود الشرعية، والتي قد تُفسد على الاحتفال مقصده النبيل وتجعله بدعة مذمومة أو حتى محرمة. وتشمل هذه الأفعال:
- الاعتقادات الشركية: مثل التوجه بالدعاء أو طلب الحاجات من غير الله، أو الاعتقاد بأن الأولياء يملكون النفع والضر استقلالاً عن الله، أو الطواف بالقبور على سبيل العبادة.
- المخالفات الأخلاقية والاجتماعية: كالاختلاط المحرم بين الجنسين، أو التبرج المبالغ فيه، أو استخدام الألفاظ النابية.
- الإسراف والتبذير: الإنفاق ببذخ غير مبرر في المأكل والمشرب أو الزينة، وهو أمر منهي عنه في الإسلام بشكل عام.
- الممارسات المؤذية أو المخلة بالنظام العام: كإغلاق الطرق أو إزعاج الناس، أو الأفعال التي تضر بالصحة العامة.
- الموسيقى الصاخبة أو الرقص الماجن: إذا كانت هذه الأفعال مصاحبة للاحتفالات وتتجاوز الآداب الشرعية العامة.
يؤكد جمعة على أن هذه الممارسات لا علاقة لها بالدين، بل هي عادات دخيلة قد تشوب الاحتفال وتخرجه عن إطاره الشرعي، ويجب على المسلم اجتنابها.
لماذا تهم هذه التوضيحات؟
تكتسب توضيحات الدكتور علي جمعة أهمية بالغة لعدة أسباب:
- التعامل مع الجدل الفقهي: توفر هذه الفتاوى إطارًا واضحًا للتعامل مع الخلافات القائمة حول الموالد، وتقدم حلولاً وسطًا تستند إلى الفهم الأزهري المعتدل.
- توجيه العامة: تساعد هذه الإرشادات المسلمين على التمييز بين الممارسات المقبولة شرعًا وتلك التي يجب تجنبها، مما يحفظ لهم دينهم ويصحح مفاهيمهم.
- الحفاظ على التراث: تساهم في الحفاظ على الاحتفالات الدينية كجزء من التراث الإسلامي والثقافي، مع ضمان بقائها متوافقة مع القيم والمبادئ الإسلامية.
- منع الغلو والتطرف: بتحديد الضوابط، تُقلل هذه التوضيحات من فرص الانزلاق نحو الغلو أو التطرف في الرأي، سواء بالتحريم المطلق أو بالإباحة المطلقة دون ضوابط.
في الختام، يدعو الدكتور علي جمعة إلى الاعتدال والوسطية في الاحتفال بالموالد، والتأكيد على المقصد الأساسي منها وهو تذكر النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، مع الحذر الشديد من الوقوع في البدع المذمومة التي قد تفسد على المسلم دينه ودنياه. هذه التوجيهات تأتي لتؤكد على مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على استيعاب التنوع الثقافي مع الحفاظ على الثوابت الدينية.





