في ظل التحديات المتزايدة التي يفرضها العصر الرقمي على تنمية الأطفال، برزت مؤخراً دعوات ثقافية وفنية تسلط الضوء على الإمكانات الكبيرة للفنون التقليدية كوسيلة فعالة لمواجهة إدمان الأطفال للهواتف والأجهزة اللوحية. من بين هذه الأصوات، جاءت تصريحات الفنانة المصرية عزة لبيب، والتي أشارت إلى أن فن العرائس، إذا ما تم توظيفه وتحديثه بما يتناسب مع اهتمامات الأطفال المعاصرين، يمكن أن يكون درعاً قوياً يحمي الأجيال الصاعدة من الانغماس المفرط في العالم الرقمي.
تأتي هذه المبادرة في وقت تتصاعد فيه المخاوف على مستوى العالم بشأن التأثيرات السلبية للإفراط في استخدام الأطفال للشاشات، والتي تشمل جوانب معرفية وسلوكية واجتماعية.
التحدي المتزايد: إدمان الأطفال للشاشات الرقمية
لقد أصبح انتشار الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، وبات الأطفال يتعرضون لها في سن مبكرة جداً. ومع تزايد الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات، يتنامى القلق لدى الآباء والمعلمين والأطباء النفسيين حول الآثار طويلة المدى لهذه الظاهرة. تشير الدراسات والتقارير إلى أن الإفراط في استخدام الأجهزة الرقمية يمكن أن يؤدي إلى:
- مشاكل في التركيز والانتباه: حيث تعوّد الشاشات الأطفال على التحفيز السريع والمستمر، مما يجعلهم يجدون صعوبة في التركيز على المهام التي تتطلب صبراً ومجهوداً.
- تأخر في التطور اللغوي والاجتماعي: يقلل الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات من فرص التفاعل وجهاً لوجه، وهو أمر بالغ الأهمية لتنمية مهارات التواصل وبناء العلاقات.
- مشاكل صحية: مثل قلة النشاط البدني، اضطرابات النوم، إجهاد العين، وحتى زيادة خطر السمنة.
- تأثيرات نفسية: كزيادة القلق والتوتر لدى بعض الأطفال، وصعوبة في إدارة العواطف نتيجة الاعتماد على التشتيت الرقمي.
هذه التحديات تستدعي إيجاد بدائل جاذبة ومفيدة تسهم في تنمية شاملة ومتوازنة للطفل.
فن العرائس: بديل إبداعي وتفاعلي
في هذا السياق، يقدم فن العرائس نفسه كحل مبتكر وذي جذور عميقة. فبدلاً من الاستهلاك السلبي للمحتوى الرقمي، يدعو فن العرائس الأطفال إلى عالم من التفاعل والإبداع والمشاركة الفعالة. ترى الفنانة عزة لبيب ومؤيدو هذا التوجه، أن سر نجاح فن العرائس في العصر الحديث يكمن في قدرته على التكيف وتجديد نفسه. وهذا يشمل:
- تحديث المحتوى: تقديم قصص وموضوعات تلامس اهتمامات الأطفال اليومية، وتناقش قضاياهم المعاصرة بدلاً من الاقتصار على القصص التقليدية فقط.
- تطوير الأشكال: استخدام تصاميم ومواد جديدة للعرائس تجعلها أكثر جاذبية وتنوعاً، مع الحفاظ على جوهر الفن.
- الدمج مع الوسائل الحديثة: استغلال بعض الأدوات التكنولوجية بشكل إيجابي لتعزيز تجربة العروض أو ورش العمل، دون أن تطغى على جوهر الفن اليدوي والتفاعلي.
بهذه الطريقة، لا يصبح فن العرائس مجرد نشاط ترفيهي، بل أداة تعليمية وتنموية متكاملة.
الفوائد المتعددة لفن العرائس في تنمية الطفل
يوفر الانخراط في فن العرائس، سواء بالمشاهدة أو بالمشاركة، مجموعة واسعة من الفوائد التي تسهم في بناء شخصية الطفل وتنمية مهاراته:
- تنمية الخيال والإبداع: يشجع فن العرائس الأطفال على تخيل عوالم وشخصيات وقصص جديدة، مما يوسع آفاقهم الذهنية ويعزز قدرتهم على التفكير الإبداعي.
- تعزيز المهارات اللغوية والتواصلية: من خلال الحوار بين العرائس، يتعلم الأطفال مفردات جديدة، وكيفية صياغة الجمل، ويتحسن لديهم فن الاستماع والتعبير عن الذات. ويمكن للأطفال المشاركين في الأداء أن يكتسبوا ثقة في التحدث أمام الآخرين.
- تطوير المهارات الحركية الدقيقة: تتطلب المناورة بالعرائس استخداماً دقيقاً للأيدي والأصابع، مما يقوي العضلات الصغيرة ويحسن التنسيق بين العين واليد.
- النمو العاطفي والاجتماعي: يتيح فن العرائس للأطفال استكشاف المشاعر المختلفة وفهم تعقيدات العلاقات الإنسانية من خلال التفاعل بين الشخصيات. كما يمكن استخدامه لتعليم القيم الأخلاقية وحل المشكلات الاجتماعية بطرق غير مباشرة وممتعة.
- التركيز والانتباه: تتطلب متابعة عرض العرائس أو المشاركة فيه مستوى من التركيز والانتباه، وهو ما يساعد على تدريب عقل الطفل على الاستمرارية في النشاط.
- ربط الأجيال: يسهم فن العرائس في الحفاظ على التراث الثقافي ونقله من جيل لآخر بطريقة ممتعة وتفاعلية.
سبل التطبيق والتحديات الراهنة
لتحقيق رؤية استخدام فن العرائس كاستراتيجية لمواجهة إدمان الشاشات، يتطلب الأمر جهوداً مشتركة على عدة مستويات. يجب أن تشمل هذه الجهود:
- دعم الفنانين والورش التدريبية: توفير الدعم المالي والمعنوي للفنانين المتخصصين في فن العرائس، وإنشاء ورش عمل مستمرة لتدريب أجيال جديدة من صناع ومحركي العرائس.
- دمج الفن في المناهج التعليمية: إدخال فن العرائس كجزء من الأنشطة المدرسية أو كأداة تعليمية في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ليكون جزءاً طبيعياً من بيئة التعلم.
- دور الأسرة والمؤسسات الثقافية: تشجيع الأسر على البحث عن عروض وورش عمل فنية، وتقليل وقت الشاشة في المنزل. ويجب على المراكز الثقافية والمسارح توفير عروض عرائس منتظمة وجذابة.
- التسويق والتوعية: الترويج لفوائد فن العرائس وحملات التوعية للآباء والمعلمين حول أهميته كبديل صحي للشاشات الرقمية.
ورغم التحديات المتمثلة في المنافسة الشديدة مع المحتوى الرقمي الجذاب، فإن الإيمان بقدرة الفن على إحداث تأثير إيجابي يظل الدافع الأساسي لهذه الجهود.
في الختام، فإن الرؤية التي قدمتها الفنانة عزة لبيب، والتي يتبناها العديد من المهتمين بالطفولة، تسلط الضوء على أن الحلول للتحديات الحديثة قد تكمن في إعادة اكتشاف وتطوير كنوزنا الثقافية. ففن العرائس، بقدرته على جذب الأطفال وتنمية مهاراتهم الشاملة، يقدم استراتيجية واعدة ليس فقط للحد من إدمان الشاشات، بل لإثراء طفولتهم بتجارب إبداعية تفاعلية تبقى معهم مدى الحياة.



