من "حرّاق بإصبعو" في الشام إلى مقاومة ثقافية بالطبخ في سيدني: هل يتسّع مذاق الوطن في لقمة؟
يُعدّ الطعام، في كثير من الأحيان، أكثر من مجرد وسيلة للبقاء؛ إنه ذاكرة حية، رابط ثقافي، ورمز للهوية، لا سيما في مجتمعات الشتات. مؤخراً، برزت قصة سوريين في سيدني، أستراليا، يحولون فن الطبخ إلى شكل من أشكال المقاومة الثقافية، مستخدمين أطباقاً تقليدية مثل "حرّاق بإصبعو" للحفاظ على جذورهم وتجذيرها في أرض جديدة. يطرح هذا التوجه سؤالاً عميقاً: هل يمكن لمذاق الوطن أن يتسع ويستمر في لقمة واحدة، عبر القارات؟

خلفية: أهمية الطعام في الثقافة السورية
الطعام السوري غني ومتنوع، يحمل في طياته قروناً من التاريخ والتبادل الثقافي. يعتبر الطبخ جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والعائلي، فالوجبات ليست مجرد طعام، بل مناسبات للتجمع والاحتفال ورواية القصص. طبق حرّاق بإصبعو، على وجه الخصوص، هو طبق دمشقي تقليدي يجمع بين العدس والمعكرونة والخبز المقلي وصلصة الرمان، ويزين بالكزبرة والثوم والبصل المقلي. إنه طبق بسيط لكنه عميق، غالباً ما يرتبط بذكريات الطفولة ودفء المنزل، ويُقدم في المناسبات العائلية كطبق يعكس الكرم والبساطة. إنه يمثل جوهر المطبخ الشامي الذي يرتكز على المكونات الطازجة والنكهات الغنية والتقاليد المتوارثة.
السياق: الشتات السوري والهوية
منذ عام 2011، شهدت سوريا نزوحاً جماعياً لملايين الأشخاص، بحثاً عن الأمان والفرص في بلدان مختلفة حول العالم، منها أستراليا. يأتي هؤلاء اللاجئون والمهاجرون ومعهم ليس فقط قصصهم الشخصية، بل أيضاً موروثهم الثقافي الغني. في مواجهة تحديات الاندماج في مجتمعات جديدة، والحفاظ على لغتهم وعاداتهم، يجد الكثيرون في الطبخ وسيلة قوية للحفاظ على هويتهم وتوريثها للأجيال القادمة. سيدني، كمدينة متعددة الثقافات، أصبحت حاضنة لمجتمعات سورية تسعى لإعادة بناء جزء من وطنها المفقود.
تطورات: الطبخ كمقاومة ثقافية في سيدني
في سيدني، تحول الطبخ السوري إلى حركة ثقافية نشطة. لم يعد الأمر مقتصراً على إعداد الطعام في المنازل، بل امتد ليشمل فعاليات مجتمعية ومشاريع ريادية تسعى لتقديم الثقافة السورية للجمهور الأسترالي الأوسع. هذه الجهود لا تهدف فقط إلى توفير الغذاء، بل هي مقاومة ناعمة ضد النسيان والفقدان الثقافي. إنها محاولة لإعادة تشكيل جزء من الوطن في الغربة، ليكون حياً وملموساً. تشمل هذه المبادرات:
- المطاعم والمقاهي السورية: التي لا تقدم فقط الأطباق التقليدية، بل تصبح مراكز لتجمع الجالية ومساحات للحوار الثقافي.
- ورش عمل الطبخ: حيث يتم تعليم الأستراليين والسوريين الأصغر سناً كيفية إعداد الأطباق التقليدية، مثل "حرّاق بإصبعو" والمحاشي والفتات، مما يضمن استمرارية هذه المهارات والمعرفة.
- مهرجانات الطعام والثقافة: تشارك فيها الجالية السورية بفعالية، لتقديم أطباقها التقليدية وقصصها للجمهور الأسترالي، مما يعزز التفاهم الثقافي ويصحح الصور النمطية.
- المبادرات النسائية: تلعب النساء السوريات دوراً محورياً في هذا الحراك، حيث يستخدمن الطبخ كمصدر للدخل وتمكين الذات، ووسيلة للحفاظ على تراثهن ونقله.
السؤال المحوري: هل يتسع مذاق الوطن في لقمة؟
السؤال الذي يطرحه العنوان – هل يتسع مذاق الوطن في لقمة؟ – هو سؤال فلسفي بقدر ما هو حسي. الإجابة، بالنسبة لكثير من السوريين في سيدني، هي نعم مدوية. إن مذاق حرّاق بإصبعو أو أي طبق تقليدي آخر لا يحمل فقط نكهة المكونات، بل يحمل أيضاً ذكريات الأهل والأصدقاء والأزقة القديمة ورائحة الياسمين في دمشق. إنه يمثل رابطاً حسياً مباشراً بالماضي وبالمكان الذي وُلدوا فيه، ويزرع شعوراً بالانتماء في نفوس من ولدوا وترعرعوا بعيداً عن الوطن الأم. تصبح اللقمة جسراً بين عالمين، وبين جيلين، وتحمل معها حكايات وصمود شعب.
التأثير والآفاق المستقبلية
تتجلى أهمية هذه المقاومة الثقافية عبر الطبخ في عدة جوانب. أولاً، إنها تساهم في الحفاظ على الهوية السورية وتعزيزها بين الأجيال الشابة التي قد لا تكون قد زارت سوريا قط. ثانياً، إنها تعزز التفاهم والتعايش الثقافي في المجتمع الأسترالي الأوسع، حيث يصبح الطعام نقطة التقاء بدلاً من الاختلاف. ثالثاً، إنها تمنح السوريين في المهجر شعوراً بالقوة والفخر بتراثهم، وتحولهم من مجرد لاجئين أو مهاجرين إلى سفراء لثقافتهم الغنية. في المستقبل، من المتوقع أن تستمر هذه المبادرات في النمو، مع تزايد الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي في وجه العولمة والتحديات السياسية.
في الختام، تُظهر قصة السوريين في سيدني كيف يمكن لطبق بسيط مثل حرّاق بإصبعو أن يتجاوز كونه مجرد وجبة ليصبح رمزاً للمقاومة الثقافية والصمود. إنه تأكيد على أن الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية، بل هو أيضاً مجموعة من الروائح والنكهات والذكريات التي يمكن حملها وتوريثها في كل لقمة، مهما اتسعت المسافات.





