نفوذ واشنطن على تل أبيب: كيف تشكل المساعدات الأمريكية القرارات الإسرائيلية؟
تُعد العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التي توصف غالباً بـ"الخاصة" أو "الاستراتيجية"، واحدة من أكثر التحالفات تعقيداً وثباتاً في السياسة الدولية الحديثة. ورغم أنها تقوم على قيم ومصالح مشتركة، إلا أن ديناميكيتها لا تخلو من فترات ضغط ونفوذ تمارسه واشنطن على تل أبيب، مستخدمةً المساعدات الضخمة كأداة رئيسية لتوجيه السياسات الإسرائيلية، وهو ما تجلى بوضوح في محطات تاريخية حاسمة.
خلفية تاريخية: أسس العلاقة الخاصة
ترسخت العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية بشكل كبير بعد حرب عام 1967، وتحولت إلى تحالف استراتيجي عميق خلال الحرب الباردة، حيث اعتبرت واشنطن إسرائيل حليفاً رئيسياً لمواجهة النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط. ومنذ حرب أكتوبر 1973، أصبحت الولايات المتحدة الضامن الرئيسي لأمن إسرائيل ومصدرها الأساسي للدعم العسكري والمالي، مع الالتزام بالحفاظ على "التفوق العسكري النوعي" لإسرائيل في المنطقة.
هذا الدعم لم يكن مجرد التزام مالي، بل تطور ليصبح ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية، ويشمل تنسيقاً استخباراتياً ودعماً دبلوماسياً مطلقاً، أبرزه استخدام حق النقض (الفيتو) بشكل متكرر في مجلس الأمن الدولي لصالح إسرائيل.
المساعدات الأمريكية: أداة دعم ونفوذ
تعتبر المساعدات الأمريكية لإسرائيل الأكبر من نوعها التي تقدمها واشنطن لأي دولة في العالم. وتُنظم هذه المساعدات عبر "مذكرات تفاهم" طويلة الأمد، كان آخرها الاتفاقية التي وقعت في عهد إدارة أوباما عام 2016، والتي تضمن تقديم مساعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات (2019-2028). هذه المساعدات مخصصة بشكل أساسي لشراء أسلحة ومعدات عسكرية أمريكية متطورة، مثل الطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الصاروخي كالقبة الحديدية.
لكن هذا الدعم الهائل يخلق في الوقت نفسه حالة من الاعتمادية، مما يمنح الإدارات الأمريكية المتعاقبة ورقة ضغط قوية يمكن استخدامها عند تباين وجهات النظر حول قضايا حساسة، مثل عملية السلام أو التوسع الاستيطاني.
مؤتمر مدريد 1991: دراسة حالة
يُعد مؤتمر مدريد للسلام الذي عُقد في 30 أكتوبر 1991 أبرز مثال تاريخي على استخدام واشنطن نفوذها الاقتصادي لتغيير موقف إسرائيلي متصلب. في ذلك الوقت، وبعد حرب الخليج الأولى، سعت إدارة الرئيس جورج بوش الأب إلى إطلاق عملية سلام إقليمية شاملة. إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحق شامير، كان متردداً في المشاركة ورافضاً لوقف النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة.
ولإجباره على الحضور، استخدم الرئيس بوش ورقة ضغط حاسمة، حيث هدد بتجميد ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار كانت إسرائيل بحاجة ماسة إليها لاستيعاب مئات الآلاف من المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي المنهار. وأمام هذا الضغط الشديد، لم يجد شامير خياراً سوى الرضوخ والمشاركة في المؤتمر، في خطوة أظهرت بوضوح مدى قدرة واشنطن على التأثير في القرارات السيادية الإسرائيلية عندما تختار استخدام نفوذها بالكامل.
تطورات حديثة وتحديات حالية
شهدت العلاقة بين البلدين دعماً أمريكياً غير مسبوق خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارتها إليها، واعترفت بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان. وبعد هجمات 7 أكتوبر 2023، سارعت إدارة الرئيس جو بايدن إلى تقديم دعم عسكري ودبلوماسي فوري وكبير لإسرائيل، بما في ذلك إرسال حاملات طائرات إلى المنطقة وتمرير حزم مساعدات طارئة.
ومع ذلك، ومع استمرار الحرب في غزة وتصاعد الأزمة الإنسانية، ظهرت خلافات علنية بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو بشأن حماية المدنيين وإدخال المساعدات ورؤية اليوم التالي للحرب. ورغم أن هذا التوتر لم يؤثر على الدعم العسكري الأساسي، إلا أنه يعكس التعقيدات الحالية في العلاقة، حيث تحاول واشنطن الموازنة بين دعمها الثابت لإسرائيل ومصالحها الأوسع في استقرار المنطقة والضغوط الدولية.
الأهمية والتداعيات
تظل العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل محورية في تشكيل سياسات الشرق الأوسط. إن التوازن الدقيق بين الشراكة الاستراتيجية والتبعية الاقتصادية والعسكرية يحدد إلى حد كبير مسار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وديناميكيات القوة الإقليمية. وبينما يبقى الدعم الأمريكي لإسرائيل ثابتاً، فإن التاريخ يثبت أن هذا الدعم ليس شيكاً على بياض، وأن واشنطن قادرة على ممارسة نفوذ كبير عندما تتعارض السياسات الإسرائيلية بشكل مباشر مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية.





