أطفال معرض الشارقة الدولي للكتاب يبتكرون فنونًا ثلاثية الأبعاد من لوحات كلاسيكية
شهدت فعاليات الدورة الأخيرة لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، التي أُقيمت في أوائل نوفمبر من العام الماضي، مبادرة فنية مميزة استقطبت مئات الأطفال المشاركين. في ركن مخصص للأنشطة الإبداعية، انغمس الصغار في ورش عمل تفاعلية فريدة من نوعها، هدفها الرئيسي ليس فقط الترفيه بل ترسيخ تقدير عميق للفن الكلاسيكي. أتيحت للأطفال فرصة استثنائية لتحويل لوحات عالمية شهيرة إلى أعمال فنية ثلاثية الأبعاد مفعمة بالحياة، مضيفين بذلك بُعدًا جديدًا وتفاعليًا للقطع الأصلية التي طالما زينت جدران المتاحف الكبرى حول العالم. هذه التجربة لم تكن مجرد نشاط حرفي، بل كانت رحلة تعليمية محفزة للخيال، جسّدت شعار المعرض في كونه ملتقى للثقافات والإبداعات المتنوعة.

خلفية المبادرة وأهدافها الثقافية
تأتي هذه المبادرة المبتكرة ضمن رؤية معرض الشارقة الدولي للكتاب المستمرة في ترسيخ مكانته كمركز إشعاع ثقافي لا يقتصر على الأدب فحسب، بل يمتد ليشمل كافة أشكال التعبير الفني والإبداعي. لطالما كان المعرض ملتزمًا بتقديم برامج متنوعة تستهدف شرائح المجتمع المختلفة، مع التركيز بشكل خاص على الأطفال واليافعين، باعتبارهم بناة المستقبل وحاملي لواء الثقافة. فكرة تحويل اللوحات الكلاسيكية إلى فن ثلاثي الأبعاد ليست مجرد نشاط ترفيهي عابر، بل هي جزء من منهج تعليمي متكامل صُمم لتحقيق عدة أهداف استراتيجية:
- تعزيز الوعي الفني والتاريخي: تعريف الأطفال بأسماء وأساليب كبار الفنانين العالميين، وتقديم لمحة عن السياق التاريخي والثقافي الذي أنتجت فيه هذه الأعمال الخالدة، وذلك بطريقة عملية ومحسوسة تتجاوز التلقين النظري.
- تحفيز الإبداع والتفكير النقدي: تشجيع الأطفال على التفكير خارج الصندوق، وإعادة تصور اللوحات من منظور جديد وشخصي، مما ينمي قدراتهم على حل المشكلات والتعبير عن رؤاهم الفنية الخاصة.
- تنمية المهارات الحركية الدقيقة واليدوية: إشراك الأطفال في عملية إبداعية تتطلب استخدام مواد وأدوات متنوعة مثل الورق المقوى، الصلصال، الأقمشة، الخيوط، والمواد المعاد تدويرها. هذا يعزز التنسيق بين العين واليد ويصقل مهاراتهم الحرفية.
- تسهيل استيعاب الفن الكلاسيكي: جعل الفن الكلاسيكي، الذي قد يبدو أحيانًا معقدًا أو بعيدًا عن واقعهم اليومي، أكثر قربًا وإثارة للاهتمام. فمن خلال التفاعل المباشر مع تفاصيل اللوحات وإعادة بنائها، يكتسب الأطفال فهمًا أعمق للتقنيات والرسائل الكامنة وراءها.
- بناء جسور بين الأجيال: تشجيع الحوار بين الأطفال وأولياء أمورهم حول الفن، ومشاركة الخبرات في تقدير الجمال والإبداع.
الورش صُممت بعناية فائقة لتمكن الأطفال من التفاعل مباشرة مع تفاصيل اللوحات، مستكشفين الألوان الزاهية، التكوينات المعقدة، والقصص والروايات الكامنة وراء كل عمل فني بطريقة حسية وتجريبية. هذا النهج يضمن تجربة تعليمية غنية وممتعة في آن واحد.
آلية العمل والتقنيات التفاعلية المستخدمة
تضمنت الورش سلسلة من المراحل التفاعلية الموجهة بدقة. بدأت كل جلسة بعرض مجموعة مختارة بعناية من اللوحات الكلاسيكية الشهيرة عالميًا. على سبيل المثال، قد يتعرف الأطفال على تعابير "الموناليزا" الغامضة لليوناردو دافنشي، أو الغموض المحيط بـ "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" ليوهانس فيرمير، أو التفاصيل الدقيقة لمناظر طبيعية ساحرة من أعمال فنانين مثل ويليام تيرنر. قام المشرفون، وهم فنانون ومعلمون متخصصون، بتقديم شرح مبسط وميسر لتاريخ اللوحة، السياق الذي رسمت فيه، وقصة فنانها، مما أثار فضول الأطفال وربطهم بالعمل الفني.
بعد ذلك، تم تزويد كل طفل بمجموعة واسعة ومتنوعة من المواد الفنية الآمنة وسهلة الاستخدام، بالإضافة إلى نسخة مطبوعة من اللوحة المراد تحويلها. باستخدام أدوات بسيطة مثل المقصات، الغراء، الألوان، وبإرشادات مستمرة من الخبراء، بدأ الأطفال رحلتهم في إعادة تفسير اللوحات. قاموا بإضافة عناصر بارزة، أو إبراز أشكال معينة باستخدام طبقات متعددة من الورق، الصلصال، الأقمشة، أو حتى الخرز. لم يكن الهدف هو إعادة إنتاج دقيق للوحات الأصلية، بل إضفاء لمسة شخصية وإبداعية عليها، مما يسمح لكل طفل بأن يكون "فنانًا مشاركًا". على سبيل المثال، يمكن لطفل أن يصنع قلادة ثلاثية الأبعاد للفتاة ذات القرط اللؤلؤي، أو يضيف أزهارًا نافرة إلى حقل في لوحة طبيعية، أو حتى يبني تفاصيل معمارية بارزة في خلفية بورتريه. هذه الحرية في التعبير شجعت على الابتكار وأظهرت تفسيرات فريدة لكل طفل.
الأثر الثقافي والصدى المجتمعي
لقد لاقت هذه الورش تفاعلاً هائلاً وصدى إيجابيًا واسعًا من قبل الأطفال المشاركين وأولياء أمورهم على حد سواء. عبر العديد من الآباء عن سعادتهم البالغة برؤية أطفالهم ينخرطون في أنشطة ثقافية وفنية بهذه الجودة العالية والابتكار، مشيدين بقدرة المعرض على تقديم محتوى تعليمي وترفيهي في آن واحد. كما أشار المنظمون والقائمون على المعرض إلى أن الفائدة تتجاوز مجرد المتعة اللحظية، حيث تساهم هذه الأنشطة بشكل فعال في بناء جيل جديد يقدر الفن، يفهم أهميته الثقافية والتاريخية، ويستطيع التعبير عن نفسه إبداعيًا.
- تعزيز الثقة بالنفس واحترام الذات: يشعر الأطفال بالإنجاز والفخر بعد إتمام عمل فني خاص بهم، مما يعزز ثقتهم بقدراتهم الإبداعية.
- تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي: عملية تحليل اللوحات وإيجاد طرق مبتكرة لإضفاء بُعد ثلاثي عليها تشجع الأطفال على التفكير النقدي في الفن ومكوناته.
- إلهام الاهتمام المستمر بالفنون: هذه التجربة الأولى والممتعة غالبًا ما تكون نقطة انطلاق تشجع الأطفال على استكشاف المزيد عن تاريخ الفن والرسم، وزيارة المتاحف، والمشاركة في ورش عمل فنية أخرى بعد انتهاء المعرض.
- التعريف بمدينة الشارقة كمركز ثقافي: هذه المبادرات تؤكد على رؤية الشارقة الطموحة كعاصمة للثقافة والفنون في المنطقة، وتبرز التزامها بغرس حب الإبداع والمعرفة في قلوب وعقول أطفالها وشبابها.
في الختام، تُعد هذه الورش نموذجًا ناجحًا ومُلهمًا لكيفية دمج التعليم والترفيه، وتقديم الفنون بطريقة تلهم الأجيال الشابة وتثري تجربتهم الثقافية خلال فعاليات كبرى مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب. مثل هذه المبادرات لا تشجع على الإبداع فحسب، بل تساهم في تشكيل جيل أكثر وعيًا وتقديرًا للتراث الفني والإنساني.





