الولايات المتحدة والصين: مساعٍ حذرة نحو توازن تجاري معقد
تستمر العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، في تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي خضم منافسة استراتيجية متصاعدة، يسعى الطرفان إلى إيجاد صيغة توازن دقيقة لعلاقاتهما التجارية، وهي مهمة محفوفة بالتحديات ومحكومة بتاريخ من التوترات ومصالح متضاربة. هذه الجهود لا تهدف إلى حل جميع الخلافات، بل إلى إدارتها بشكل يمنع الانزلاق نحو صراع مفتوح قد يضر بالاقتصاد العالمي بأسره.
خلفية التوترات التجارية
تعود جذور التوترات الحالية إلى سنوات مضت، لكنها تصاعدت بشكل ملحوظ في عام 2018 عندما فرضت الإدارة الأمريكية آنذاك تعريفات جمركية واسعة النطاق على سلع صينية بمليارات الدولارات. كانت المبررات المعلنة لهذه الإجراءات تتمحور حول الممارسات التجارية التي وصفتها واشنطن بغير العادلة، مثل سرقة الملكية الفكرية، والنقل القسري للتكنولوجيا، والدعم الحكومي الكبير للشركات الصينية، مما أدى إلى عجز تجاري أمريكي ضخم مع الصين. ردت بكين بإجراءات مماثلة، لتبدأ بذلك ما عُرف بـ "الحرب التجارية" التي أثرت على سلاسل التوريد العالمية وأثارت قلقاً في الأسواق المالية.
تطورات حديثة ومساعٍ دبلوماسية
خلال الأشهر الأخيرة، شهدت العلاقات محاولات لإعادة ضبط الحوار على الرغم من استمرار الخلافات الجوهرية. جرت سلسلة من الزيارات رفيعة المستوى لمسؤولين أمريكيين إلى بكين، بمن فيهم وزيرة الخزانة جانيت يلين ووزير الخارجية أنتوني بلينكن. هدفت هذه اللقاءات إلى إعادة فتح قنوات الاتصال التي تجمدت، والتأكيد على أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى "فصل" اقتصادها بالكامل عن الصين، بل إلى "تقليل المخاطر" في قطاعات استراتيجية محددة. من جانبها، تؤكد الصين على ضرورة التعاون وتتهم واشنطن بمحاولة كبح نموها الاقتصادي والتكنولوجي عبر سياسات حمائية.
أبرز نقاط الخلاف والتحديات الراهنة
لا يزال تحقيق التوازن التجاري يواجه عقبات كبيرة تتمثل في عدة ملفات شائكة. وتتركز الخلافات الرئيسية حالياً حول النقاط التالية:
- التكنولوجيا المتقدمة: تفرض الولايات المتحدة قيوداً صارمة على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة ومعدات تصنيعها إلى الصين، معتبرة ذلك ضرورياً لحماية أمنها القومي. ترى الصين في هذه الإجراءات محاولة لعرقلة طموحاتها التكنولوجية.
- فائض القدرة الإنتاجية: أثارت واشنطن مؤخراً مخاوف جدية بشأن الدعم الحكومي الصيني الهائل لقطاعات مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والبطاريات، محذرة من أن فائض الإنتاج قد يغرق الأسواق العالمية بمنتجات منخفضة التكلفة، مما يضر بالصناعات في الدول الأخرى.
- الوصول إلى الأسواق: لا تزال الشركات الأمريكية والأوروبية تشكو من وجود حواجز تنظيمية وصعوبات في الوصول إلى السوق الصينية على قدم المساواة مع الشركات المحلية.
- الأمن القومي: أصبح عامل الأمن القومي المحرك الرئيسي للسياسات الاقتصادية لدى الجانبين، حيث يتم تقييم كل قرار تجاري واستثماري من منظور تأثيره على القدرات الاستراتيجية لكل دولة.
مستقبل العلاقات الاقتصادية: "تقليل المخاطر" بدلاً من "الفصل"
يشكل مصطلح "تقليل المخاطر" (De-risking) حجر الزاوية في الاستراتيجية الغربية الحالية تجاه الصين. الفكرة هي تقليل الاعتماد على بكين في سلاسل التوريد الحيوية، مثل المعادن النادرة والمكونات الصيدلانية والتكنولوجيا، دون قطع العلاقات الاقتصادية بشكل كامل. بينما تهدف هذه السياسة إلى تعزيز المرونة الاقتصادية والأمنية للدول الغربية، تنظر إليها بكين بعين الريبة وتعتبرها شكلاً مقنعاً من أشكال الفصل الاقتصادي الذي يستهدفها. هذا التباين في وجهات النظر يعقد مهمة بناء الثقة والوصول إلى تفاهمات مستدامة.
في المحصلة، يبدو أن تحقيق توازن تجاري مستقر بين الولايات المتحدة والصين ليس هدفاً يمكن بلوغه على المدى القصير، بل هو عملية مستمرة من التفاوض وإدارة الخلافات. تتسم العلاقة بمزيج فريد من المنافسة الشديدة والاعتماد المتبادل، مما يجعل إيجاد أرضية مشتركة أمراً صعباً ولكنه ضروري لتجنب اضطرابات أوسع نطاقاً قد تؤثر سلباً على استقرار الاقتصاد العالمي.




