بين مولده ووصول رأسه: سر احتفال المصريين بذكرى الإمام الحسين مرتين سنوياً
تنفرد مصر بظاهرة ثقافية ودينية فريدة تتمثل في إحياء ذكرى الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، مرتين خلال العام الهجري الواحد. لا يعكس هذا التقليد مجرد احتفال، بل يجسد فصولاً من تاريخ طويل وعلاقة روحية عميقة تربط المصريين بآل البيت، وتتجلى في مناسبتين رئيسيتين: الأولى هي ذكرى مولده، والثانية، وهي الأكبر والأكثر شعبية، هي ذكرى وصول رأسه الشريف إلى القاهرة.

خلفية تاريخية: رحلة الرأس الشريف إلى مصر
تعود جذور هذه العلاقة الاستثنائية إلى العصر الفاطمي. فبعد استشهاد الإمام الحسين في معركة كربلاء عام 61 هـ (680 م)، حُفظ رأسه في أماكن متفرقة قبل أن يستقر في مدينة عسقلان بفلسطين. ومع اشتداد الحملات الصليبية على المنطقة، خشي الخليفة الفاطمي آنذاك، الفائز بنصر الله، من تعرض الرأس الشريف للتدنيس. وعليه، أمر بنقله إلى القاهرة عام 548 هـ (1153 م) لحمايته.
نُقل الرأس في موكب مهيب واستُقبل في مصر باحتفالات شعبية ورسمية ضخمة، وتم بناء مسجد ومقام خاص له، وهو ما يعرف اليوم بـ "مسجد الإمام الحسين" في قلب القاهرة الفاطمية. ومنذ ذلك الحين، أصبح المقام أحد أبرز المعالم الدينية في مصر ومقصداً للمحبين والزوار من مختلف أنحاء العالم، وترسخت قصة وصول الرأس في الوجدان الشعبي المصري.
احتفالان لكل منهما دلالته الخاصة
يميز المصريون بين احتفالين سنويين، لكل منهما طابعه الخاص وطقوسه المميزة، مما يثري المشهد الاحتفالي ويعمق ارتباطهم بسيرة الإمام الحسين.
- الاحتفال الأول: ذكرى المولد: يوافق هذا الاحتفال تاريخ ميلاد الإمام الحسين في الثالث من شهر شعبان. ويتخذ طابعاً دينياً أكثر رسمية، حيث تقام حلقات الذكر والدروس الدينية في مسجده والمساجد الكبرى، ويتم التركيز على سيرته ومناقبه. ورغم أهميته، إلا أنه يعد احتفالاً محدوداً مقارنة بالاحتفال الثاني.
- الاحتفال الثاني: المولد الشعبي (الليلة الكبيرة): يعد هذا هو الحدث الأضخم والأكثر شهرة، ويقام في الأسبوع الأخير من شهر ربيع الثاني من كل عام، إحياءً لذكرى وصول رأس الإمام إلى مصر. تتحول منطقة الحسين والأزهر خلال هذه الفترة إلى ساحة احتفال كبرى تستمر لأيام، وتبلغ ذروتها في ما يُعرف بـ "الليلة الكبيرة". تجذب هذه الاحتفالات ملايين الزوار من مختلف المحافظات المصرية، بالإضافة إلى وفود من دول أخرى.
مظاهر الاحتفال الشعبي ودور الطرق الصوفية
يلعب المتصوفة دوراً محورياً في تنظيم وإحياء المولد الشعبي للإمام الحسين. حيث تنظم الطرق الصوفية الكبرى مواكب ضخمة تجوب الشوارع المحيطة بالمسجد، حاملةً أعلامها وراياتها، وسط أناشيد المدح والابتهالات الدينية. تقام سرادقات كبيرة تعرف بـ "ساحات الخدمة" لتقديم الطعام والشراب للزوار، وتنتشر حلقات الذكر والإنشاد الديني في كل مكان.
لا تقتصر الأجواء على الطابع الديني فقط، بل تمتزج بالموروث الشعبي، فتنتشر الألعاب ومحال بيع الحلوى والهدايا التذكارية، مما يخلق حالة فريدة من الروحانية والبهجة تجسد حب المصريين المتجذر لآل البيت، والذي يعتبرونه جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الثقافية والدينية. وقد شهدت الاحتفالات الأخيرة، التي أقيمت في مطلع عام 2024، حضوراً جماهيرياً كبيراً كعادتها السنوية، مؤكدة على استمرارية هذا التقليد العريق.
في المحصلة، فإن الاحتفال المزدوج بذكرى الإمام الحسين في مصر ليس مجرد تكرار، بل هو تعبير عن جانبين من علاقة المصريين به؛ الأول يحيي ذكرى ميلاده كنور أشرق في تاريخ الإسلام، والثاني يحتفي بوصوله الرمزي إلى أرضهم، ليصبح "جاراً" لهم ومصدر بركة، وهو ما يفسر لقبه الشعبي "ولي النعم".





