تدمير التراث في غزة: العمليات العسكرية تهدد تاريخ القطاع وهويته الثقافية
منذ اندلاع النزاع في 7 أكتوبر 2023، تعرض التراث الثقافي والتاريخي الغني في قطاع غزة لدمار واسع النطاق نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية. وتشير التقارير الصادرة عن هيئات فلسطينية ودولية إلى أن أكثر من مئتي موقع أثري وتاريخي، بما في ذلك مساجد وكنائس ومتاحف ومكتبات، قد تعرضت لأضرار جسيمة أو دمرت بالكامل، مما يثير مخاوف عميقة بشأن محو الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية للمنطقة.
خلفية: غزة كملتقى للحضارات
يتمتع قطاع غزة بتاريخ يمتد لآلاف السنين، حيث كان مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًا على مر العصور. تعاقبت عليه حضارات عديدة من الكنعانيين والمصريين القدماء إلى الإغريق والرومان والبيزنطيين، وصولًا إلى العصور الإسلامية المختلفة. هذا التاريخ العريق ترك وراءه كنزًا من المواقع الأثرية والتراثية التي تشكل جزءًا لا يتجزء من الهوية الفلسطينية والإرث الإنساني العالمي.
حجم الأضرار التي لحقت بالمواقع الرئيسية
كشفت تقارير ميدانية صدرت خلال الأشهر الماضية عن حجم الدمار الذي طال معالم بارزة في غزة. ووفقًا لبيانات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية والمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن القصف الجوي والعمليات البرية أدت إلى تدمير مواقع لا تقدر بثمن. من أبرز هذه المواقع:
- المسجد العمري الكبير: وهو أكبر وأقدم مسجد في قطاع غزة، ويعود تاريخ أجزاء منه إلى العصر البيزنطي. تعرض المسجد لأضرار بالغة أدت إلى انهيار مئذنته وأجزاء كبيرة من هيكله الرئيسي.
- كنيسة القديس برفيريوس: تعد ثالث أقدم كنيسة في العالم، وتقع في حي الزيتون بمدينة غزة. تعرض أحد مبانيها الملحقة للقصف في أكتوبر 2023، مما أدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين الذين كانوا يحتمون بداخلها.
- قصر الباشا: وهو متحف ومبنى تاريخي يعود للعصر المملوكي، وقد تعرض لأضرار جسيمة. كان القصر يضم مجموعة من القطع الأثرية التي تروي تاريخ المنطقة.
- حمام السمرا: وهو حمام عام تاريخي يعود إلى العصر العثماني، وكان لا يزال يعمل قبل النزاع، وقد تم تدميره بالكامل.
- مراكز الأرشيف والمكتبات: تعرضت العديد من المؤسسات الثقافية، بما في ذلك الأرشيف المركزي لمدينة غزة الذي يضم وثائق تاريخية هامة، للحرق والتدمير، مما يمثل خسارة فادحة للذاكرة الموثقة للمدينة.
الأهمية والتداعيات الدولية
يثير استهداف المواقع الثقافية قلقًا دوليًا بالغًا، حيث تحظر اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح تعريض مثل هذه المواقع للتدمير. وقد وصفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الأضرار بأنها "مأساة للتراث الثقافي"، ودعت مرارًا إلى حماية هذه المواقع. يرى خبراء ومراقبون أن تدمير التراث لا يمثل خسارة مادية فحسب، بل هو محاولة لمحو الهوية وسردية الشعب الفلسطيني، مما يعقد جهود المصالحة والسلام المستقبلية.
من جانبها، صرحت السلطات الإسرائيلية في مناسبات مختلفة أن عملياتها تستهدف البنية التحتية لحركة حماس، متهمة الحركة باستخدام المواقع المدنية، بما في ذلك المواقع الدينية والتاريخية، لأغراض عسكرية. ومع ذلك، تؤكد المنظمات الحقوقية أن حجم الدمار الذي لحق بالمواقع التراثية يتجاوز ما يمكن تبريره بالضرورة العسكرية.
الوضع الحالي ومستقبل التراث
مع استمرار النزاع، لا يزال تقييم حجم الضرر الكامل صعبًا، وتتزايد المخاوف بشأن مصير ما تبقى من كنوز غزة الأثرية. وقد بدأت جهود أولية لتوثيق الدمار باستخدام صور الأقمار الصناعية والشهادات الميدانية، استعدادًا لمرحلة ما بعد الحرب التي قد تتطلب جهودًا دولية ضخمة للتقييم والترميم، وإن كانت استعادة الكثير من المواقع المدمرة بالكامل تبدو مستحيلة. تبقى حماية ما تبقى من هذا الإرث الإنساني تحديًا كبيرًا في ظل الأوضاع الراهنة.





