تقرير "ذا تايمز": السجون الإسرائيلية ومسألة نشأة جيل جديد من قيادات حماس
أشار تقرير حديث لصحيفة "ذا تايمز" البريطانية إلى ظاهرة متنامية ومثيرة للقلق، مفادها أن السجون الإسرائيلية قد أصبحت، عن غير قصد، بيئة حاضنة لتشكيل جيل جديد من القادة داخل حركة حماس. يسلّط التقرير الضوء على كيفية تحوّل تجربة الاعتقال المطولة داخل هذه السجون إلى عامل محوري في صقل الوعي السياسي، وتعزيز التماسك التنظيمي، وتطوير المهارات القيادية بين المعتقلين الفلسطينيين، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى حركة حماس. ويفتح هذا التحليل الباب أمام تساؤلات جدية حول فعالية سياسات الاعتقال الإسرائيلية وأثرها بعيد المدى على طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

خلفية تاريخية: السجون كمعاقل فكرية
ليست فكرة أن السجون قد تساهم في بلورة القيادات السياسية جديدة أمراً مستحدثاً في سياق الصراع الفلسطيني. فلطالما اعتبر العديد من المحللين والمؤرخين السجون الإسرائيلية، ومنذ عقود طويلة، بمثابة "جامعات" غير رسمية للفلسطينيين. ففي هذه الأماكن المغلقة، يجد الأفراد من مختلف الفصائل والأيديولوجيات أنفسهم مجبرين على التعايش والتفاعل، مما يفسح المجال لتبادل الخبرات، وترسيخ القناعات، وصياغة الاستراتيجيات المشتركة. وقد شهدت السجون على مر التاريخ تشكّل العديد من الشخصيات البارزة التي لعبت أدواراً محورية في الحركات الوطنية الفلسطينية، من فتح إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها. وبالنسبة لحركة حماس، التي برزت كقوة سياسية وعسكرية رئيسية في العقود الأخيرة، كان للسجون دور لا يستهان به في مسار تطور العديد من قياداتها التاريخية، حيث قضى بعضهم سنوات طويلة خلف القضبان، وخرجوا منها بمزيد من العزم والخبرة.
- تطوير الوعي السياسي: يتلقى المعتقلون دروساً مكثفة حول تاريخ الصراع، القوانين الدولية، والتكتيكات السياسية من خلال النقاشات والتفاعل مع قادة آخرين.
- التنظيم الذاتي: تُساهم السجون في تعزيز القدرة على التنظيم الذاتي الداخلي، حيث يُدير المعتقلون حياتهم اليومية وينظمون أنشطتهم داخل الأقسام، مما يعزز مهارات الإدارة والتخطيط.
- التواصل الشبكي: تُعد فترة الاعتقال فرصة فريدة لبناء شبكات علاقات قوية بين أفراد الفصائل المختلفة، بما في ذلك حماس، مما يسهل التنسيق المستقبلي.
ديناميكيات السجون ودورها في صقل القيادات
يشير تقرير "ذا تايمز" إلى أن البيئة داخل السجون الإسرائيلية، بكل تعقيداتها وتحدياتها، تسهم بشكل فعال في بناء قدرات قيادية. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والقيود المفروضة، يجد المعتقلون طرقاً لتنظيم أنفسهم، وتثقيف بعضهم البعض، وتطوير رؤى سياسية وأمنية. تُصبح هذه السجون بمثابة "بوتقة" تنصهر فيها الأفكار وتُصقل فيها الشخصيات، وتتحول فيها التحديات إلى فرص لتعزيز الصمود وتعميق الالتزام بالقضية الفلسطينية. كما أن الاحتكاك المباشر مع جهاز السجون الإسرائيلي، ومحاولة فهم آلياته وقوانينه، يمنح المعتقلين دراية معمقة بالخصم، وهو ما يُعتبر رصيداً قيّماً لأي قيادة مستقبلية.
وقد ساهمت عوامل عدة في ترسيخ هذه الديناميكية، منها على سبيل المثال لا الحصر: الفراغ الزمني الطويل الذي يتيح للمعتقلين فرصة للتفكير والقراءة والتأمل، والحاجة الملحة للتنظيم الداخلي لمواجهة تحديات الاعتقال، إضافة إلى الدور الذي يلعبه كبار المعتقلين في توجيه الشباب ونقل الخبرات إليهم. هذا المزيج من الظروف يُعد مثالاً واضحاً على الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها سياسات الاعتقال، التي تهدف إلى كبح جماح المقاومة، إلى نتائج عكسية تماماً، حيث تُصبح جزءاً من عملية إعداد وتأهيل قادة أكثر خبرة وفعالية.
الجيل الجديد من قيادات حماس: سمات وتحديات
يركز التقرير تحديداً على مفهوم "الجيل الجديد" من قيادات حماس التي تتشكل داخل السجون. هذا الجيل قد لا يكون بالضرورة مختلفاً أيديولوجياً عن أسلافه، ولكنه قد يتميز بخصائص معينة فرضتها التطورات السياسية والتكنولوجية الحديثة. قد يكون هؤلاء القادة الجدد أكثر وعياً بأهمية العمل الإعلامي والرقمي، وأكثر قدرة على التكيف مع التغيرات في الساحة الإقليمية والدولية، مع احتفاظهم بالصلابة الفكرية والتنظيمية التي تُصقلها تجربة الاعتقال. ومن المرجح أن هؤلاء القادة، عند إطلاق سراحهم، سيحملون معهم ليس فقط الخبرة الأمنية والسياسية، بل أيضاً شبكة علاقات قوية داخل الحركة ومع الفصائل الأخرى، مما يعزز من قدرة حماس على التنسيق والعمل المشترك.
تشير بعض التقديرات إلى أن الزيادات الكبيرة في أعداد المعتقلين الفلسطينيين، خصوصاً في فترات التوتر المتصاعد، تزيد من احتمالية ظهور عدد أكبر من هؤلاء القادة الشباب. فكلما طالت فترات الاعتقال، زادت الفرصة لترسيخ هذه الخبرات وتعميقها، مما يثير تساؤلات حول جدوى الاعتقال المطول كأداة لردع النشاط المقاوم. إن الاهتمام بالجيل الجديد من القيادات داخل حماس، والذي ترصده "ذا تايمز"، يعكس تحليلاً عميقاً لتطور الحركة وتأقلمها مع الظروف الصعبة، وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر البيئة السجنية في هذا التطور.
تداعيات محتملة وانعكاسات على الصراع
إن التحول الذي تشير إليه "ذا تايمز" له تداعيات خطيرة على مستقبل الصراع. فإذا كانت السجون الإسرائيلية تُساهم بالفعل في صقل قيادات أكثر فعالية لحركة حماس، فقد يعني ذلك تعقيداً أكبر في أي محاولات مستقبلية للتوصل إلى تسوية سياسية. قد تخرج هذه القيادات الجديدة بمفاهيم أكثر صلابة حول المقاومة، وأكثر قدرة على تكييف استراتيجيات الحركة لمواجهة التحديات الأمنية الإسرائيلية. وهذا بدوره قد يدفع إسرائيل إلى مراجعة سياسات الاعتقال لديها، وإعادة التفكير في الآثار غير المقصودة على المدى الطويل.
من جهة أخرى، قد تزيد هذه الظاهرة من التوتر داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، حيث قد تنشأ ديناميكيات قيادية جديدة تتنافس على التأثير. ولكن الأهم هو أن هذا التقرير يُلفت الانتباه إلى بُعد إنساني وسياسي عميق، ألا وهو أن قمع حركة أو اعتقال أفرادها لا يُنهي بالضرورة الصراع، بل قد يُغير من شكله ويُعيد إنتاج قياداته بطرق غير متوقعة. يبقى التحدي قائماً أمام جميع الأطراف لفهم هذه الديناميكية المعقدة والتعامل معها بأسلوب يعالج جذور المشكلة بدلاً من أعراضها.




