مبادرات الهدنة في السودان تصطدم بعقبة تيارات النظام السابق
تجددت الآمال مؤخراً بشأن إمكانية التوصل إلى هدنة طويلة الأمد في السودان، في ظل استمرار الصراع المدمر منذ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. جاء ذلك بعد تصريحات لمسؤول أمريكي أفادت بوجود موافقة مبدئية من الطرفين على وقف لإطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر. ورغم ذلك، لم يصدر أي تأكيد رسمي من قيادتي الجيش أو الدعم السريع، فيما تسلط الأضواء على الدور المعرقل الذي تلعبه جماعات مرتبطة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، والتي تسعى لإدامة الحرب لمنع أي تسوية سياسية قد تنهي نفوذها بشكل كامل.

خلفية الصراع وجهود الوساطة المتعثرة
اندلعت الحرب الحالية نتيجة صراع على السلطة بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو. ومنذ اندلاعها، أدت إلى أزمة إنسانية كارثية، حيث خلفت آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين، ودمرت البنية التحتية في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى. وقد جرت عدة محاولات للوساطة، أبرزها منبر جدة برعاية سعودية أمريكية، بالإضافة إلى جهود من الاتحاد الإفريقي ومنظمة "إيقاد"، لكن جميعها لم تنجح في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار بسبب الخلافات العميقة وغياب الإرادة السياسية لدى الطرفين المتحاربين.
دور تيارات النظام السابق في تأجيج الصراع
يُنظر إلى عودة نفوذ كوادر "الحركة الإسلامية" السياسية، التي كانت تشكل الواجهة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في عهد البشير، كأحد أبرز معوقات السلام. هذه المجموعات، التي يشار إليها إعلامياً وسياسياً بـ "فلول النظام البائد"، استغلت الحرب لإعادة تموضعها داخل مؤسسات الدولة، وخصوصاً الجيش. ويرى محللون أن هذه التيارات تدفع باتجاه الحل العسكري وترفض أي شكل من أشكال التفاوض، وذلك لعدة أسباب:
- الرغبة في استعادة السلطة: تعتبر هذه الجماعات أن انتصار الجيش هو السبيل الوحيد لعودتها إلى المشهد السياسي الذي أُقصيت منه بعد ثورة ديسمبر 2018.
- تجنب المحاسبة: يخشى قادة النظام السابق من أن أي تسوية سياسية قد تشمل بنوداً تتعلق بالعدالة الانتقالية ومحاسبتهم على جرائم سابقة.
- رفض التسوية مع الدعم السريع: تعتبر هذه التيارات قوات الدعم السريع "قوات متمردة" لا يمكن التفاوض معها، وتعمل على تعبئة الرأي العام والجيش لرفض أي حل سياسي.
- السيطرة على قرار الجيش: يتهم العديد من المراقبين هذه التيارات باختراق دائرة صنع القرار في قيادة الجيش، مما يجعل موقف الجيش متشدداً ويرفض تقديم تنازلات جوهرية في المفاوضات.
تتجلى هذه التأثيرات في الخطاب الإعلامي المتشدد وفي تشكيل ما يعرف بـ "المقاومة الشعبية"، وهي مجموعات مسلحة مدنية تساند الجيش، ويُعتقد أن عناصر إسلامية متشددة تقف خلف تنظيمها وتسليحها.
غموض مواقف الأطراف المتحاربة
حتى الآن، لا يزال الموقف الرسمي لكل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع غامضاً بشأن مبادرة الهدنة الأخيرة التي تحدث عنها المستشار الأمريكي مسعد بولس. هذا الصمت يعكس حجم الضغوط الداخلية والخارجية التي يواجهها الطرفان. فبينما قد تكون هناك أجنحة داخل الجيش والدعم السريع تميل إلى وقف الحرب، فإن نفوذ المتشددين، خاصة من جانب الجيش، يعرقل أي تقدم. من جهتها، تحاول قوات الدعم السريع تقديم نفسها كقوة تحارب "فلول النظام البائد"، لكن انتهاكاتها الواسعة ضد المدنيين تقوض مصداقيتها وتجعلها طرفاً غير موثوق به في أي اتفاق سلام.
الأهمية والتداعيات المستقبلية
إن استمرار تأثير تيارات النظام السابق لا يهدد فقط مبادرات الهدنة الحالية، بل يقوض مستقبل عملية الانتقال الديمقراطي في السودان برمتها. فاستمرار الحرب يخدم أجندة هذه الجماعات التي لا تؤمن بالديمقراطية وتسعى لإعادة إنتاج نظام شمولي. وبدون تحييد هذه العناصر وإبعادها عن دائرة صنع القرار العسكري والسياسي، سيبقى تحقيق سلام مستدام وشامل في السودان أمراً بعيد المنال، مما ينذر بإطالة أمد الأزمة الإنسانية وتعميق الانقسام المجتمعي في البلاد.




