مستقبل غزة: جدل حول لجنة الإدارة والقوة الدولية والخط الفاصل بينهما
مع استمرار الحرب المدمرة في قطاع غزة، تتزايد الأصوات الدولية والإقليمية المطالبة بوضع رؤية واضحة لمستقبل القطاع في مرحلة ما بعد الصراع. يتركز الجدل الدائر خلال الأشهر الأخيرة حول مقترحين رئيسيين يهدفان إلى ملء الفراغ الإداري والأمني المتوقع: تشكيل «لجنة إدارة غزة» مدنية، ونشر «قوة دولية» لحفظ الأمن. ورغم أن كلا المفهومين يهدفان إلى تحقيق الاستقرار، إلا أن طبيعتهما وأدوارهما المقترحة تختلف جذريًا، مما يثير تساؤلات حول أوجه الاختلاف والتكامل بينهما، ومواقف الأطراف المعنية.
السياق العام للخلاف حول إدارة غزة
ينبع النقاش حول مستقبل غزة من الحاجة الملحة لتحديد من سيتولى إدارة القطاع وتوفير الأمن لسكانها بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي تهدف إلى القضاء على حكم حركة حماس. لم تعد صيغة ما قبل الحرب قابلة للاستمرار في نظر المجتمع الدولي وإسرائيل على حد سواء، مما يستدعي خطة شاملة تتناول الجوانب المدنية والأمنية. تُعد هذه المرحلة حاسمة لتجنب الفوضى الإدارية والأمنية، التي قد تؤدي إلى دورات جديدة من العنف، وضمان وصول المساعدات وإعادة الإعمار.
مفهوم «لجنة إدارة غزة» المدنية
يُشير مصطلح «لجنة إدارة غزة» أو «الإدارة المدنية» إلى هيئة فلسطينية ذات طابع مدني أو تكنوقراطي تُكلف بمهمة الإدارة اليومية للقطاع. تتضمن مهامها المقترحة إدارة الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، وتوزيع المساعدات الإنسانية، والإشراف على جهود إعادة الإعمار، وربما التحضير لانتخابات مستقبلية. النقاش حول هذه اللجنة يدور بشكل أساسي حول تركيبتها ومن سيقودها. هناك عدة مقترحات مطروحة، منها:
- حكومة تكنوقراط فلسطينية: تتألف من شخصيات مستقلة تتمتع بالكفاءة والقبول المحلي والدولي، وتكون مسؤولة أمام قيادة فلسطينية موحدة أو منظمة التحرير الفلسطينية.
- مجالس محلية موسعة: تفعيل دور المجالس البلدية والمحلية القائمة وتوسيع صلاحياتها، مع دعم خارجي لضمان فعاليتها واستقلاليتها.
- سلطة فلسطينية معدلة: عودة السلطة الفلسطينية لتولي زمام الأمور في غزة بعد إصلاحات جوهرية تُرضي الأطراف الدولية والإسرائيلية.
تتمحور فكرة هذه اللجنة حول إرساء أسس حكم رشيد يخدم مصالح سكان غزة بشكل مباشر، ويحظى بالشرعية. إلا أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تحقيق هذه الشرعية في ظل الاحتلال، وموقف إسرائيل الرافض لأي دور للسلطة الفلسطينية بشكلها الحالي، ورفض الفصائل الفلسطينية لأي حلول لا تراعي وحدة الصف الفلسطيني.
مفهوم «القوة الدولية» الأمنية
تُطرح فكرة «القوة الدولية» كآلية لضمان الأمن والاستقرار في غزة بعد الحرب. يختلف النقاش هنا عن الجانب الإداري، حيث تُعنى هذه القوة بالحفاظ على القانون والنظام، ومنع عودة أي جماعات مسلحة، وتأمين الحدود، وحماية المساعدات الإنسانية، وربما الإشراف على نزع السلاح. يمكن أن تتخذ هذه القوة أشكالًا متعددة:
- قوة أممية: تحت مظلة الأمم المتحدة، بتفويض من مجلس الأمن، وتتألف من قوات من دول مختلفة.
- قوة متعددة الجنسيات: تتشكل من دول صديقة أو حليفة، مثل دول عربية أو أوروبية، مع دعم لوجستي ومالي دولي.
- قوة عربية: تُشكل من دول عربية توافق على المساهمة بقوات بشرية ومالية، مع إشراف دولي محدود.
تكمن أهمية القوة الدولية في قدرتها على توفير بيئة آمنة تُمكّن الإدارة المدنية من أداء مهامها، وتُطمئن الأطراف المعنية بشأن المخاوف الأمنية. ومع ذلك، تواجه هذه الفكرة تحديات كبيرة، أبرزها الحصول على موافقة إسرائيل التي تصر على سيطرتها الأمنية المطلقة، وموافقة الفلسطينيين الذين يخشون من أن تتحول القوة الدولية إلى غطاء للاحتلال، بالإضافة إلى صعوبة حشد الدول للمساهمة بقوات في منطقة شديدة التعقيد.
أوجه الاختلاف والخط الفاصل بينهما
الفرق الجوهري بين لجنة الإدارة والقوة الدولية يكمن في طبيعة المهام والمسؤوليات:
- لجنة الإدارة: هي هيئة مدنية بحتة، تُعنى بالشؤون الحكومية والإدارية والخدماتية. دورها ينصب على تنظيم حياة المدنيين، وإعادة الإعمار، وتوفير الخدمات الأساسية.
- القوة الدولية: هي كيان أمني وعسكري، تُعنى بحفظ النظام والأمن، ومنع العنف، وتأمين الحدود، والحفاظ على الاستقرار.
الخط الفاصل بينهما وظيفي: الأولى تدير شؤون الحياة المدنية، بينما الثانية توفر البيئة الأمنية اللازمة لتمكين الأولى من القيام بمهامها. إنهما مفهومان مكملان لبعضهما البعض؛ فإدارة مدنية فعالة تحتاج إلى أمن مستقر، وقوة أمنية مستقرة تحتاج إلى شريك مدني يدير الحياة اليومية ويحظى بالقبول الشعبي. لا يمكن لأي منهما أن يعمل بفعالية بمعزل عن الآخر على المدى الطويل.
التحديات والمواقف الراهنة
يواجه تنفيذ أي من هذين المفهومين تحديات سياسية وأمنية ولوجستية عميقة. تصر إسرائيل على الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية الشاملة على غزة وترفض عودة السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي، بينما تطالب السلطة الفلسطينية بتولي المسؤولية كاملة في إطار خطة تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. أما المجتمع الدولي، فيسعى إلى حل يوازن بين الأمن الإسرائيلي وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، ويضمن عدم انهيار الوضع الإنساني. إن التوصل إلى توافق حول هيكل الإدارة المدنية وطبيعة القوة الأمنية، ومن ثم الحصول على دعم جميع الأطراف، لا يزال هو العقبة الأكبر في طريق أي حل مستقبلي لقطاع غزة.




