مفاوضات واشنطن وبكين: المعادن النادرة وفول الصويا في صلب المحادثات وسط غياب اتفاق شامل
تشير التطورات الأخيرة في المباحثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى تحول ملحوظ في استراتيجية التفاوض، حيث يركز الطرفان على قطاعات محددة وذات أهمية استراتيجية، مثل المعادن النادرة وفول الصويا، مبتعدين عن طموح التوصل إلى صفقة تجارية شاملة تحل جميع القضايا العالقة. يعكس هذا التوجه الجديد الواقعية التي باتت تفرض نفسها على أكبر اقتصادين في العالم، واللذين يدركان صعوبة حل الخلافات الهيكلية العميقة في جولة واحدة من المفاوضات.

خلفية النزاع التجاري
اندلعت الحرب التجارية بين واشنطن وبكين خلال السنوات القليلة الماضية، وتميزت بفرض رسوم جمركية متبادلة على مئات المليارات من الدولارات من السلع. لم تقتصر أسباب النزاع على الميزان التجاري المختل لصالح الصين، بل امتدت لتشمل قضايا أكثر تعقيدًا مثل حقوق الملكية الفكرية، والنقل القسري للتكنولوجيا، والدعم الحكومي الصيني للشركات المحلية، وقيود الوصول إلى الأسواق. وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق "المرحلة الأولى" في السابق، إلا أن القضايا الجوهرية ظلت دون حل، مما أبقى التوترات قائمة.
الأهمية الاستراتيجية للموارد المتنازع عليها
يرتكز التركيز الحالي للمفاوضات على سلعتين تمثل كل منهما ورقة ضغط قوية بيد أحد الطرفين. هذا التحول يوضح طبيعة الصراع الذي تجاوز كونه مجرد نزاع تجاري ليصبح مواجهة استراتيجية.
- المعادن النادرة: تهيمن الصين على ما يقرب من 80% من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، وهي مجموعة من 17 عنصرًا كيميائيًا لا غنى عنها في الصناعات التكنولوجية المتقدمة والدفاعية، مثل صناعة الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، والطائرات المقاتلة. هذا الاحتكار يمنح بكين نفوذًا هائلاً، حيث يمكنها تقييد الصادرات كوسيلة للضغط على واشنطن، التي تعتمد بشدة على الواردات الصينية لتلبية احتياجاتها الصناعية والعسكرية.
- فول الصويا: من ناحية أخرى، يمثل فول الصويا أحد أهم الصادرات الزراعية الأمريكية، وكانت الصين قبل الحرب التجارية أكبر مستورد له. يشكل المزارعون الأمريكيون كتلة انتخابية مهمة، وقد تضرروا بشدة من الرسوم الجمركية الصينية الانتقامية. وبالتالي، تسعى واشنطن للحصول على التزامات صينية بشراء كميات كبيرة من فول الصويا والمنتجات الزراعية الأخرى لدعم قطاعها الزراعي وتخفيف الأضرار السياسية والاقتصادية الداخلية.
تطورات المفاوضات الأخيرة
بدلاً من السعي لتحقيق انفراجة كبرى، يبدو أن المفاوضين من كلا الجانبين يتبنون نهجًا أكثر واقعية يهدف إلى تحقيق مكاسب محدودة وملموسة. تشير التقارير الصادرة خلال الأسابيع الأخيرة إلى أن المحادثات تهدف إلى بناء الثقة عبر خطوات صغيرة، حيث قد توافق الصين على زيادة مشترياتها من السلع الزراعية الأمريكية مقابل تخفيف محدود لبعض الرسوم الجمركية أو تأجيل فرض رسوم جديدة. هذا التكتيك يسمح للطرفين بتحقيق انتصارات رمزية يمكن تقديمها للجمهور المحلي، مع تجنب المواجهة المباشرة حول القضايا الشائكة.
لماذا تم استبعاد الصفقة الشاملة؟
يبدو أن فكرة التوصل إلى "صفقة كبرى" قد أصبحت مستبعدة في المدى المنظور لعدة أسباب جوهرية. الخلافات الهيكلية بين النموذجين الاقتصاديين الأمريكي والصيني عميقة جدًا بحيث لا يمكن جسرها بسهولة. القضايا المتعلقة بالدعم الحكومي الصيني، ودور الشركات المملوكة للدولة، والوصول إلى البيانات، والأمن السيبراني تتطلب تغييرات جذرية قد لا تكون بكين مستعدة أو قادرة على تقديمها. علاوة على ذلك، أدى تدهور العلاقات السياسية وزيادة انعدام الثقة بين البلدين إلى جعل التنازلات الكبيرة أمرًا صعبًا سياسيًا لكلا الحكومتين.
التأثير والآفاق المستقبلية
إن التركيز على صفقات قطاعية صغيرة قد يوفر استقرارًا مؤقتًا للأسواق العالمية ويمنع التصعيد الحاد للنزاع التجاري، لكنه لا يعالج جذور المشكلة. هذا النهج يعني أن حالة عدم اليقين ستستمر على المدى الطويل، حيث ستظل الشركات والمستثمرون يواجهون مخاطر التوترات الجيوسياسية المفاجئة. من المرجح أن يستمر هذا النمط من المفاوضات، الذي يتسم بالتقدم البطيء والتركيز على قضايا محددة، ليصبح السمة المميزة للعلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين في المستقبل القريب، مع بقاء احتمالات التوصل إلى حل شامل ودائم بعيدة المنال.



