بعد قيود صينية على المعادن النادرة، واشنطن تبحث عن تهدئة في حربها التكنولوجية مع بكين
في خطوة تعكس عمق التوترات في الحرب التكنولوجية المستمرة بين أكبر اقتصادين في العالم، أثارت القيود التي فرضتها الصين على صادرات معادن استراتيجية حيوية ردود فعل أمريكية لافتة، تمثلت في تكثيف المساعي الدبلوماسية بهدف احتواء التصعيد وإيجاد أرضية مشتركة لتخفيف حدة النزاع. وتأتي هذه التطورات في سياق معقد من المنافسة الجيوسياسية التي باتت فيها سلاسل التوريد التكنولوجية ساحة رئيسية للصراع.
خلفية النزاع والسيطرة على الموارد
تصاعدت المواجهة التكنولوجية بين واشنطن وبكين خلال السنوات الأخيرة، حيث فرضت الولايات المتحدة قيودًا صارمة على وصول الشركات الصينية إلى أشباه الموصلات المتقدمة وتكنولوجيا صناعتها، مبررة ذلك بمخاوف تتعلق بالأمن القومي. تهدف هذه الإجراءات إلى إبطاء التقدم التكنولوجي والعسكري الصيني، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة.
في المقابل، تمتلك الصين ورقة ضغط قوية تتمثل في هيمنتها شبه الكاملة على إنتاج وتصنيع مجموعة من المعادن الأرضية النادرة والمواد الحيوية الأخرى. وتعتبر الصين المنتج العالمي الأكبر لمعدني الجاليوم والجرمانيوم، حيث تستحوذ على ما يقدر بنحو 80% من إنتاج الجاليوم و60% من إنتاج الجرمانيوم عالميًا. هذه المعادن ليست نادرة بالمعنى الحرفي، ولكن عملية استخلاصها وتنقيتها معقدة ومكلفة بيئيًا، مما جعل دولًا كثيرة تعتمد على الصين كمصدر رئيسي لها.
تفاصيل القيود الصينية وتوقيتها
في أوائل شهر يوليو من عام 2023، أعلنت وزارة التجارة الصينية عن فرض ضوابط جديدة على صادرات معدني الجاليوم والجرمانيوم ومركباتهما الكيميائية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 1 أغسطس 2023. وبموجب القواعد الجديدة، يتعين على المصدرين الحصول على تراخيص خاصة لتصدير هذه المواد، مع تقديم تفاصيل دقيقة عن المشترين النهائيين واستخداماتهم.
وتدخل هذه المواد في صناعات استراتيجية بالغة الأهمية، منها:
- صناعة الرقائق الإلكترونية عالية الأداء.
- تطوير شبكات الاتصالات من الجيل الخامس (5G).
- إنتاج الألواح الشمسية والخلايا الكهروضوئية.
- تصنيع الألياف البصرية ومعدات الأشعة تحت الحمراء.
- تطبيقات عسكرية ودفاعية متطورة.
جاء توقيت القرار لافتًا، حيث سبق زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى بكين، مما فسره مراقبون على أنه رسالة سياسية واضحة للولايات المتحدة وحلفائها بأن بكين قادرة على الرد بالمثل على القيود المفروضة عليها.
رد الفعل الأمريكي والمسار الدبلوماسي
على الرغم من أن رد الفعل الرسمي من وزارة التجارة الأمريكية أعرب عن "معارضة حازمة" للقيود الصينية، مؤكدًا أنها ستتشاور مع الحلفاء لمواجهة هذه الخطوة، إلا أن الإدارة الأمريكية اتبعت مسارًا دبلوماسيًا مكثفًا في محاولة لتهدئة الأوضاع. زيارة الوزيرة يلين، التي تلت زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن، هدفت إلى إعادة فتح قنوات الاتصال على أعلى المستويات وإدارة الخلافات بشكل يمنع خروجها عن السيطرة.
لم تسفر هذه الزيارات عن حلول فورية، لكنها شكلت محاولة أمريكية لإرساء ما تسميه واشنطن بـ"الأرضية الصلبة" للعلاقات، والبحث عن هدنة تكتيكية تتيح للطرفين إدارة المنافسة الشرسة دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. يرى محللون أن هذه التحركات الدبلوماسية تعكس إدراكًا أمريكيًا بأن قطع العلاقات بالكامل مع الصين سيضر بالاقتصاد العالمي والأمريكي، وأن التعاون ضروري في ملفات أخرى مثل تغير المناخ والاستقرار المالي العالمي.
التأثيرات المحتملة على الاقتصاد العالمي
تثير القيود الصينية مخاوف جدية بشأن استقرار سلاسل التوريد العالمية. على المدى القصير، قد تواجه الشركات في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة صعوبات في تأمين إمداداتها من الجاليوم والجرمانيوم، مما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتأخير في الإنتاج. على المدى الطويل، تدفع هذه الخطوة الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية إلى تسريع جهودها الرامية إلى "إزالة المخاطر" من سلاسل التوريد الخاصة بها عبر تنويع مصادر المواد الخام، وتشجيع التعدين المحلي، والاستثمار في تقنيات إعادة التدوير.
تُظهر هذه الأزمة كيف أصبحت المعادن والمواد الحيوية أدوات استراتيجية في الصراع الجيوسياسي، وأن الاعتماد المفرط على مصدر واحد يمثل نقطة ضعف كبيرة. وبذلك، فإن قرار الصين لا يعد مجرد رد تجاري، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى في النظام العالمي الجديد الذي تبرز فيه التكنولوجيا كمحور أساسي للمنافسة.




