الخداع الاستراتيجي في التعامل مع ملف غزة.. جرس إنذار
تزامناً مع التطورات الأخيرة التي يشهدها ملف قطاع غزة، برز مفهوم «الخداع الاستراتيجي» كجرس إنذار يُثير قلق المراقبين والمحللين. يشير هذا المفهوم إلى استخدام تكتيكات غير مباشرة، أو خطاب مُضلل، أو أجندات خفية من قبل أطراف متعددة – إقليمية ودولية – مما يُعقّد بشكل كبير جهود التوصل إلى حل دائم ومستقر. يرى الكثيرون أن هذا النهج يمثل تحذيراً خطيراً يُنذر بتفاقم الأزمة الإنسانية وإطالة أمد حالة عدم الاستقرار في القطاع.

سياق القضية وأهميتها
لطالما كان قطاع غزة، وهو منطقة مكتظة بالسكان، في صميم صراع جيوسياسي معقد يمتد لعقود. وقد أدت ظروفه الإنسانية القاسية، التي تفاقمت بفعل الحصار والنزاعات المتكررة، إلى جعله نقطة اشتعال إنسانية وسياسية حرجة. يتداخل في هذا الملف طبقات متعددة تشمل الانقسامات الداخلية الفلسطينية، والمخاوف الأمنية الإسرائيلية، والتنافسات الجيوسياسية الإقليمية، والجهود الدولية للسلام والمساعدة. إن غياب مقاربة واضحة وموحدة وصادقة من جميع أصحاب المصلحة قد أدى في كثير من الأحيان إلى حلقات متكررة من العنف ووعود لم تتحقق.
ملامح الخداع الاستراتيجي
يُشير المحللون إلى عدة أشكال من الخداع الاستراتيجي في التعامل مع ملف غزة. أحد الجوانب الرئيسية هو المناورات السياسية التي تقوم بها القوى الإقليمية والدولية. يتضمن ذلك تقديم دعم لفظي للسلام بينما تُتبع سياسات تُعمّق الانقسامات أو تُبقي على الوضع الراهن. قد تُدافع بعض الدول علناً عن حل الدولتين، في حين تنخرط سراً في إجراءات تقوض من قابليته للتحقيق، مثل التوسع الاستيطاني أو عدم الضغط بفعالية على الأطراف الرئيسية.
- المفاوضات غير الجادة: الانخراط في محادثات سلام أو اتفاقيات وقف إطلاق نار دون نية حقيقية للتوصل إلى اتفاق شامل، وغالباً ما تُستخدم المفاوضات كوسيلة لكسب مزايا تكتيكية أو لكسب الوقت.
- التضليل حول الدعم الإنساني: التعهد علناً بتقديم مساعدات إنسانية كبيرة أو الدعوة إلى تسليمها دون عوائق، وفي الوقت نفسه فرض أو السماح بقيود تحد بشكل كبير من فعاليتها.
- استغلال الانقسامات الداخلية: استغلال الانقسامات داخل المشهد السياسي الفلسطيني أو حتى إدامتها لتجنب التعامل مع هيئة تمثيلية موحدة وشرعية.
- الأجندات الإقليمية الخفية: إعطاء الأولوية لتوازنات القوى الإقليمية أو صفقات التطبيع على حساب الحقوق الأساسية والطموحات السياسية للشعب الفلسطيني في غزة.
التطورات الأخيرة وتصاعد التحذيرات
في الفترة التي تلت التصعيد الكبير للأعمال العدائية، لا سيما منذ أواخر عام 2023، تصاعدت المخاوف بشأن الخداع الاستراتيجي. لقد أكدت الأزمة الإنسانية المستمرة في غزة، التي تتميز بالنزوح الجماعي ومخاطر المجاعة والدمار، فشل الأطر السياسية القائمة. بينما تزايدت الدعوات الدولية لوقف دائم لإطلاق النار وزيادة المساعدات، فإن التنفيذ كان محفوفاً بالتحديات، ويُعزى ذلك غالباً إلى العوائق السياسية والأجندات المتضاربة بدلاً من المستحيلات اللوجستية. وقد شهدت المناقشات حول حوكمة غزة ما بعد الصراع، على سبيل المثال، اقتراحات متنوعة تُعتبر غالباً محاولات لإعادة تشكيل المنطقة دون مدخلات فلسطينية حقيقية أو تقرير المصير.
إن جانب «جرس الإنذار» يعني أن هذه الاستراتيجيات الخادعة ليست مجرد غير فعالة، بل هي ضارة بشكل فعال. إنها تُخاطر بـ:
- تآكل الثقة: تقويض أي ثقة متبقية بين الأطراف المعنية، مما يجعل المصالحة والدبلوماسية المستقبلية شبه مستحيلة.
- استمرار الصراع: إدامة دورات العنف وعدم الاستقرار، مع تكاليف بشرية ومادية مدمرة.
- تفاقم الأزمة الإنسانية: تعميق الكارثة الإنسانية في غزة، ودفع سكانها نحو مزيد من الفقر واليأس.
- تقويض القانون الدولي: تقويض الأعراف الدولية والقانون الإنساني من خلال السماح بإجراءات تنتهك حقوق الإنسان تحت ذرائع مُقنّعة.
دعوات للشفافية والمساءلة
في مواجهة هذه التحديات، هناك إجماع متزايد بين المراقبين على أن تحولاً جوهرياً نحو الشفافية والمساءلة والإرادة السياسية الحقيقية أمرٌ حتمي. يتطلب ذلك صياغة واضحة للأهداف، والالتزام المستمر بالقانون الدولي، والتزام جميع الأطراف بإعطاء الأولوية لرفاهية وحقوق السكان المدنيين المشروعة في غزة. فبدون معالجة عمليات الخداع الاستراتيجي الكامنة، من المرجح أن تظل أي جهود نحو السلام هشة وغير مستدامة في نهاية المطاف. وبالتالي، يجب أن ينتقل التركيز من المكاسب التكتيكية إلى الحلول الاستراتيجية المبنية على الصدق والاحترام المتبادل.




