براغماتية دونالد ترامب: إتقان فن الممكن في السياسة
يمثل مفهوم "فن الممكن" جوهر البراغماتية السياسية، ويشير إلى القدرة على تحقيق الأهداف ضمن القيود الواقعية المتاحة، وغالبًا ما يتطلب ذلك المرونة والتفاوض وتقدير الظروف المتغيرة. في الآونة الأخيرة، تبرز مسيرة دونالد ترامب السياسية كدراسة حالة لافتة لهذا الفن، حيث يرى العديد من المحللين أنه أتقن استخدامه بطرق غير تقليدية، محوّلاً التحديات إلى فرص ومبحرًا في المشهد السياسي الأمريكي والدولي بأسلوب فريد. منذ بداياته كرجل أعمال وصولاً إلى رئاسة الولايات المتحدة وحملاته الانتخابية اللاحقة، أظهر ترامب قدرة واضحة على تكييف مواقفه والتفاوض بشدة والتأثير على الرأي العام بطرق أثارت الجدل في كثير من الأحيان.

الخلفية والسياق: من عالم الأعمال إلى الساحة السياسية
قبل دخوله المعترك السياسي، اشتهر دونالد ترامب كقطب عقاري ورجل أعمال بارز، حيث شكلت خبرته في هذا المجال أساسًا لنهجه المستقبلي. كتابه الشهير، "فن الصفقة" (The Art of the Deal)، الذي نُشر في عام 1987، يوضح فلسفته في التفاوض والمساومة، مع التركيز على خلق قيمة، والمطالبة بأقصى ما يمكن، وعدم التردد في الانسحاب من الصفقة إذا لم تكن مواتية. هذه المبادئ، التي صُقلت في عالم الشركات، وجدت طريقها إلى استراتيجياته السياسية بعد عقود.
عندما قرر ترامب الترشح للرئاسة في عام 2016، لم يكن ينظر إليه كسياسي تقليدي. فقد استغل شعبيته كشخصية إعلامية وناقد قوي للمؤسسة السياسية، وتحدث مباشرة إلى جمهور واسع كان يشعر بالإحباط من الوضع الراهن. كان صعوده إلى الرئاسة بمثابة تأكيد على قدرته على إعادة تعريف "الممكن" في السياسة الأمريكية، متجاوزًا التوقعات والتقاليد الراسخة.
ملامح استراتيجية ترامب في "فن الممكن"
يمكن تحديد عدة جوانب رئيسية في أسلوب دونالد ترامب السياسي التي تعكس إتقانه لـ "فن الممكن":
- المرونة التكتيكية وتغيير المواقف: على الرغم من انتقادات بشأن تناقضاته الظاهرية، يرى مؤيدوه أن ترامب يظهر مرونة تكتيكية، حيث يكون مستعدًا لتعديل مواقفه أو حتى عكسها تمامًا إذا رأى أن ذلك سيخدم هدفه النهائي. هذه القدرة على المناورة تتيح له التكيف مع الظروف المتغيرة واغتنام الفرص غير المتوقعة.
- التفاوض القوي وخلق النفوذ: غالبًا ما تبدأ مفاوضات ترامب بمطالب متطرفة، مما يمنحه مجالًا للمساومة. وقد استخدم هذا الأسلوب في التجارة الدولية والسياسة الداخلية، مهددًا بفرض رسوم جمركية أو الانسحاب من الاتفاقيات لخلق نفوذ أكبر.
- التواصل المباشر وتعبئة القاعدة: يشتهر ترامب باستخدامه المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي والتجمعات الجماهيرية للتواصل مباشرة مع مؤيديه، متجاوزًا وسائل الإعلام التقليدية. هذا النهج سمح له بالتحكم في رسالته وتعبئة قاعدته الشعبية بفعالية، حتى في مواجهة التغطية الإعلامية السلبية.
- تحدي الأعراف السياسية: لقد تحدى ترامب مرارًا وتكرارًا القواعد والأعراف السياسية، سواء في خطابه أو في أساليب الحكم. وبينما يرى منتقدوه ذلك تخريبًا، يعتبره أنصاره دليلًا على عدم التزامه بالجمود السياسي ورغبته في إحداث تغيير جذري.
- استغلال الانقسامات: في بعض الأحيان، كان ترامب بارعًا في استغلال الانقسامات المجتمعية والسياسية لصالح أجندته، مما أدى إلى تماسك قاعدته الانتخابية على حساب الإجماع الوطني.
تطبيقات حديثة وتأثير مستمر
في فترة رئاسته (2017-2021)، طبق ترامب هذه الاستراتيجيات في العديد من القضايا، من مفاوضات اتفاقيات التجارة مثل اتفاقية أمريكا الشمالية الجديدة (USMCA) إلى نهجه في السياسة الخارجية مع دول مثل الصين وكوريا الشمالية. كان يُنظر إلى انسحابه من اتفاقيات دولية كبرى، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، على أنه خطوة جريئة تهدف إلى إعادة التفاوض بشروط أفضل من وجهة نظره.
حتى بعد مغادرته البيت الأبيض، وفي حملاته الانتخابية الحالية، يستمر ترامب في استخدام هذه التكتيكات. تظهر قدرته على الحفاظ على نفوذه الكبير داخل الحزب الجمهوري، وتأثيره على الأجندة السياسية، كشهادة مستمرة على إتقانه لـ "فن الممكن"، حيث يواصل تشكيل السرديات والتأثير على مسار الأحداث بطرق غالبًا ما تكون غير متوقعة.
لماذا يهم هذا الأسلوب
إن نهج دونالد ترامب في "فن الممكن" له تداعيات واسعة على السياسة الأمريكية والعالمية. فهو يثير تساؤلات حول فعالية السياسات التقليدية، ودور وسائل الإعلام، وتوقعات الناخبين من قادتهم. بينما يرى البعض أن أسلوبه يؤدي إلى نتائج ملموسة ويخدم مصالح معينة، يرى آخرون أنه يقوض المؤسسات الديمقراطية ويخلق حالة من عدم اليقين.
تستمر التحليلات في محاولة فهم المدى الذي يمكن أن يستمر فيه هذا الأسلوب في تشكيل المشهد السياسي، وما إذا كان يمثل تحولًا دائمًا في كيفية ممارسة السياسة. في كل الأحوال، يبقى دونالد ترامب شخصية محورية في النقاش حول البراغماتية السياسية وكيفية تطبيق "فن الممكن" في عصرنا الحالي.





