عودة الاغتيالات السياسية في العراق: دلالات وتداعيات
شهد العراق في الآونة الأخيرة عودة مقلقة لظاهرة الاغتيالات السياسية التي تستهدف شخصيات عامة، ناشطين، ومرشحين للانتخابات، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الاستقرار والأمن في البلاد. فبعد فترة من التراجع النسبي في وتيرة هذه الحوادث، عادت أعمال العنف الممنهج لتلقي بظلالها على المشهد السياسي العراقي، مهددة بتقويض الجهود الرامية لبناء دولة مستقرة وديمقراطية. تتزامن هذه العودة مع تحديات داخلية معقدة وتوترات إقليمية، مما يجعل فهم دلالاتها وتداعياتها أمراً حيوياً.

تشير التحليلات الأولية إلى أن هذه الاغتيالات ليست حوادث معزولة، بل هي جزء من نمط أوسع يهدف إلى التأثير على ديناميكيات السلطة، وتكميم الأفواه المعارضة، وربما عرقلة المسارات السياسية والديمقراطية. إن استهداف شخصيات بارزة مثل المرشح البرلماني وعضو مجلس محافظة بغداد السابق صفاء المشهداني، الذي ورد اسمه في تقارير إخبارية، يسلط الضوء على طبيعة هذه الاستهدافات التي تسعى إلى إرسال رسائل واضحة ومخيفة لمن قد يفكر في تحدي الوضع الراهن أو الكشف عن ملفات فساد حساسة. تثير هذه الظاهرة المخاوف من عودة العراق إلى حقبة من العنف السياسي الذي طالما عرقل تقدمه.
الخلفية التاريخية وتجربة العراق مع العنف السياسي
لم تكن ظاهرة الاغتيالات غريبة على المشهد العراقي منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. فقد شهدت البلاد موجات متعددة من العنف السياسي، بما في ذلك الاغتيالات المستهدفة، التي طالت سياسيين، مسؤولين حكوميين، قادة دينيين، صحفيين، ونشطاء حقوقيين. كانت هذه العمليات في كثير من الأحيان مرتبطة بالصراع الطائفي، وصراعات النفوذ بين الفصائل المسلحة، ومحاولات إخراس الأصوات المعارضة، أو تصفية حسابات شخصية وسياسية.
خلال سنوات الذروة للعنف، وتحديداً بين عامي 2004 و2008، كانت الاغتيالات جزءاً يومياً من حياة العراقيين، وشكلت عائقاً كبيراً أمام بناء دولة المؤسسات. ومع تراجع حدة الصراع الطائفي وظهور تنظيم داعش الإرهابي، تحول تركيز العنف إلى مواجهة هذا التنظيم، لكن الاغتيالات لم تختفِ تماماً، بل اتخذت أشكالاً مختلفة. ففي مرحلة ما بعد داعش، عادت لتستهدف في الغالب نشطاء الاحتجاجات الشعبية، والصحفيين الاستقصائيين الذين كشفوا عن ملفات فساد، مما عكس استمرار وجود جهات تسعى إلى فرض أجندتها بالقوة والعنف بعيداً عن القانون. هذه الخلفية تضع العودة الحالية للاغتيالات في سياق تاريخي مؤلم، مبرزةً أن العراق لم يتمكن بعد من طي صفحة العنف السياسي بشكل كامل.
التطورات الأخيرة وأنماط الاستهداف
شهدت الأشهر القليلة الماضية تصاعداً ملحوظاً في حوادث الاغتيال، التي استهدفت مجموعة متنوعة من الشخصيات في مناطق مختلفة من العراق، أبرزها بغداد ومحافظات الجنوب. هذا التصاعد يشير إلى عودة لنمط منهجي في الاستهداف. يمكن ملاحظة عدة أنماط رئيسية في هذه التطورات:
- استهداف السياسيين والمرشحين: كما هو الحال مع المرشح البرلماني السابق صفاء المشهداني، فإن استهداف السياسيين، سواء كانوا يشغلون مناصب حالية أو يسعون لشغلها، يهدف إلى التأثير على العملية السياسية والانتخابية، وإرسال رسائل تهديد للآخرين. غالباً ما يكون هؤلاء الأفراد على صلة بملفات حساسة أو يمثلون تحدياً لجهات نافذة.
- تكميم أفواه النقاد والناشطين: لا تزال أصوات المعارضة والناشطين المدنيين والمدافعين عن حقوق الإنسان عرضة للاستهداف. هذه الاغتيالات تهدف إلى إخماد الاحتجاجات الشعبية ومنع كشف الفساد أو المطالبة بالإصلاحات، مما يخلق بيئة من الخوف ويحد من حرية التعبير.
- تنوع الأساليب: تتراوح أساليب الاغتيال بين استخدام العبوات اللاصقة الملتصقة بالمركبات، وإطلاق النار المباشر من قبل مسلحين مجهولين على دراجات نارية أو سيارات، أو حتى اختطاف الضحايا قبل العثور عليهم مقتولين. هذا التنوع يشير إلى تنظيم وتخطيط مسبق لهذه العمليات من قبل جهات تمتلك القدرة على تنفيذها ببراعة.
- الافتقار إلى المساءلة: في معظم الحالات، تظل هويات الجناة مجهولة، أو لا يتم تقديمهم للعدالة، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويشجع على استمرار هذه الأعمال. هذا الفشل في المساءلة يثير شكوكاً حول قدرة أو رغبة الدولة في حماية مواطنيها وإنفاذ القانون بشكل فعال.
هذه التطورات لا تقتصر على منطقة واحدة، مما يدل على أن المشكلة أعمق من مجرد حوادث محلية، بل تعكس تحديات أمنية وسياسية واسعة النطاق تواجه العراق في مرحلته الراهنة.
العوامل المحركة وراء عودة الاغتيالات
يمكن عزو عودة الاغتيالات السياسية في العراق إلى مجموعة معقدة من العوامل المتشابكة التي تؤثر على المشهد السياسي والأمني:
- ضعف الدولة وهيمنة الجماعات المسلحة: على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز سلطة الدولة، إلا أن نفوذ بعض الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة لا يزال قوياً. هذه الجماعات، التي تمتلك أحياناً أجندات خاصة، تستخدم العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها أو حماية مصالحها، مما يقوض احتكار الدولة للقوة المشروعة.
- الفساد المستشري: يعد الفساد أحد أكبر التحديات في العراق، وتصاعد الاغتيالات يمكن أن يكون مرتبطاً بمحاولات إخراس الأصوات التي تكشف عن قضايا فساد كبرى أو تعرقل مصالح شبكات الفساد المتغلغلة في مؤسسات الدولة والاقتصاد.
- الاستقطاب السياسي والتنافس على السلطة: يشهد العراق تنافساً سياسياً حاداً، خاصة في فترات ما قبل الانتخابات أو تشكيل الحكومات. يمكن أن تكون الاغتيالات أداة لترهيب المنافسين، أو إضعاف خصوم سياسيين، أو تغيير موازين القوى لصالح أطراف معينة.
- غياب سيادة القانون وثقافة الإفلات من العقاب: الفشل المتكرر في تحديد الجناة وتقديمهم للعدالة يخلق بيئة تشجع على استمرار الجرائم. هذا الإفلات من العقاب يؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين في النظام القضائي ويعزز الاعتقاد بأن بعض الجهات فوق القانون.
- التدخلات الإقليمية: لا يمكن إغفال دور بعض التدخلات الإقليمية التي قد تستغل الوضع الأمني الهش في العراق لدعم أطراف معينة أو تأجيج الصراعات بما يخدم مصالحها، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني.
هذه العوامل مجتمعة تخلق بيئة مواتية لعودة العنف السياسي، مما يجعل معالجة كل منها أمراً ضرورياً لتحقيق الاستقرار المستدام.
الدلالات والتداعيات المحتملة لعودة الاغتيالات
إن عودة الاغتيالات السياسية تحمل دلالات خطيرة وتداعيات وخيمة على مستقبل العراق على عدة مستويات:
- تقويض العملية الديمقراطية: تهدد هذه الأعمال مبدأ المشاركة الحرة والنزيهة في الحياة السياسية. عندما يتعرض المرشحون والسياسيون للاستهداف، فإن ذلك يثبط العزائم ويحد من حرية الترشح والانتخاب، مما يشوه جوهر الديمقراطية.
- تآكل ثقة الجمهور في الدولة: يرى المواطنون في الاغتيالات دليلاً على ضعف الدولة وعدم قدرتها على حماية مواطنيها أو فرض سيادة القانون. هذا التآكل في الثقة يمكن أن يؤدي إلى فقدان الإيمان بالعملية السياسية والمؤسسات الحكومية، مما قد يدفع البعض نحو التفكير في بدائل غير ديمقراطية.
- بث الخوف وتكميم الأفواه: تخلق الاغتيالات مناخاً من الخوف يحد من حرية التعبير والانتقاد. يتردد الصحفيون والناشطون والمواطنون العاديون في التعبير عن آرائهم أو كشف الفساد خشية التعرض للاستهداف، مما يؤثر سلباً على الرقابة الشعبية والشفافية.
- تأثير على الاستقرار الاقتصادي والتنمية: البيئة غير المستقرة التي تخلقها الاغتيالات السياسية تنفر المستثمرين المحليين والأجانب، وتعيق مشاريع التنمية. فغياب الأمن يدفع رؤوس الأموال إلى الفرار ويجعل من الصعب تحقيق النمو الاقتصادي الذي يحتاجه العراق بشدة لإعادة الإعمار وتوفير فرص العمل.
- عودة الصراع الطائفي أو الفصائلي: هناك خطر حقيقي من أن تؤدي هذه الاغتيالات إلى تأجيج التوترات الطائفية أو الصراعات بين الفصائل المسلحة، مما قد يدفع البلاد نحو موجة جديدة من العنف واسع النطاق، وهو ما يعيد العراق إلى نقطة الصفر بعد سنوات من الجهود المضنية لتحقيق المصالحة الوطنية.
- ضعف مكانة العراق إقليمياً ودولياً: تؤثر ظاهرة الاغتيالات سلباً على صورة العراق في المحافل الإقليمية والدولية، مما يعوق قدرته على بناء شراكات استراتيجية وجذب الدعم اللازم لجهود إعادة الإعمار والتنمية.
كل هذه التداعيات تشير إلى أن عودة الاغتيالات ليست مجرد حوادث أمنية، بل هي مؤشرات خطيرة على تحديات هيكلية تهدد نسيج الدولة والمجتمع العراقي.
ردود الفعل والتحديات أمام المساءلة
قوبلت عودة الاغتيالات في العراق بموجة من الإدانات والاستنكار على المستويين الوطني والدولي، إلا أن التحديات أمام تحقيق المساءلة لا تزال كبيرة:
- الإدانات الرسمية: تصدر الحكومة العراقية والبرلمان بيانات إدانة لهذه الأعمال، وتعد بالتحقيق في الحوادث وتقديم الجناة للعدالة. ومع ذلك، غالباً ما تفتقر هذه الوعود إلى نتائج ملموسة، مما يزيد من شعور الإحباط لدى الرأي العام.
- المطالبات الشعبية: تخرج تظاهرات ومسيرات شعبية في المدن المستهدفة تطالب الحكومة بتوفير الحماية للمواطنين والكشف عن قتلة النشطاء والشخصيات العامة. هذه المطالبات تعكس غضباً شعبياً متزايداً من فشل الدولة في فرض سيادة القانون.
- التحذيرات الدولية: تعبر المنظمات الدولية والدول الكبرى عن قلقها إزاء تصاعد العنف السياسي وتدعو السلطات العراقية إلى حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير، والعمل بجدية على إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.
- صعوبة التحقيقات والمساءلة: تواجه الأجهزة الأمنية والقضائية صعوبات جمة في تعقب الجناة وتقديمهم للمحاكمة. يعزى ذلك إلى عدة عوامل منها غياب الأدلة الكافية، وتغلغل بعض الجهات المسلحة في أجهزة الدولة، والتهديدات التي يتعرض لها المحققون والشهود، مما يعيق سير العدالة.
- الخلافات السياسية: غالباً ما تتداخل التحقيقات في هذه الاغتيالات مع الخلافات السياسية، حيث تتهم الأطراف المتنافسة بعضها البعض، مما يزيد من تعقيد الوضع ويصرف الانتباه عن الجوهر الأمني والقضائي للمشكلة.
هذه الردود والواقع الصعب للمساءلة يؤكدان أن الطريق نحو إنهاء هذه الظاهرة مليء بالعقبات ويتطلب إرادة سياسية حقيقية وجهوداً أمنية وقضائية مكثفة.
إن عودة الاغتيالات السياسية في العراق تمثل مؤشراً خطيراً على هشاشة الوضع الأمني والسياسي في البلاد. فبعد سنوات من الكفاح ضد الإرهاب والتحديات الداخلية، يواجه العراق مجدداً تهديداً يضرب في صميم مفهوم الدولة وسلطتها. إن هذه الظاهرة ليست مجرد أحداث أمنية متفرقة، بل هي دلالات على صراعات نفوذ عميقة، وفشل في تطبيق القانون، وتغلغل للفساد، واستمرار لغياب المساءلة. تضع هذه التطورات البلاد على مفترق طرق حاسم.
لضمان مستقبل مستقر ومزدهر، يتعين على الحكومة العراقية اتخاذ خطوات حازمة لفرض سيادة القانون، وتجريد الجماعات المسلحة من قدرتها على العمل خارج إطار الدولة، ومكافحة الفساد بجدية، وتوفير الحماية الكاملة للمواطنين، خاصة أولئك الذين يعملون في المجال السياسي أو الإعلامي أو الحقوقي. إن الفشل في معالجة هذه التحديات بشكل فعال قد يعيد العراق إلى دوامة من العنف والفوضى، ويهدد بتقويض كل ما تحقق من تقدم بصعوبة بالغة خلال السنوات الماضية.





