تحول في السياسة الأمريكية: المصالح الاقتصادية تتفوق على الديمقراطية في آسيا الوسطى
تشهد السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه دول آسيا الوسطى تحولاً جذرياً، حيث تتجه واشنطن إلى إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية المباشرة على حساب خطابها التقليدي حول نشر الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان. ويأتي هذا التغير في سياق جيوسياسي عالمي متغير، حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى بناء شراكات براغماتية لمواجهة النفوذ المتنامي للصين وروسيا في المنطقة، وهو ما برز بوضوح خلال قمة "C5+1" الأخيرة التي جمعت مسؤولين أمريكيين بقادة دول آسيا الوسطى الخمس.

خلفية التحول الاستراتيجي
يعود هذا التوجه الجديد في السياسة الأمريكية إلى عدة عوامل، أبرزها الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، الذي شكل نقطة تحول بالنسبة لدول آسيا الوسطى. فقد أثار هذا الحدث مخاوف دول المنطقة من الهيمنة الروسية، ودفعها للبحث عن شركاء دوليين جدد لتنويع علاقاتها وتحقيق توازن استراتيجي. تاريخياً، لم تكن الولايات المتحدة تضع قضايا الديمقراطية في مقدمة أولوياتها العملية في المنطقة، إذ كانت المصالح الأمنية، مثل الوصول إلى القواعد الجوية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، هي المحرك الأساسي للعلاقات. إلا أن التحول الحالي يمثل اعترافاً صريحاً بأن الشراكة القائمة على المصالح المشتركة هي السبيل الأكثر فعالية لتحقيق أهداف واشنطن.
الأهداف الأمريكية الجديدة: المعادن والممرات
ترتكز الاستراتيجية الأمريكية المحدثة على هدفين رئيسيين، يتمثلان في تأمين الموارد الحيوية وتطوير مسارات تجارية بديلة.
- المعادن النادرة والحيوية: في ظل هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة العالمية، التي تعد ضرورية للصناعات التكنولوجية المتقدمة والدفاعية، تعتبر الولايات المتحدة آسيا الوسطى مصدراً واعداً لتنويع سلاسل التوريد. وقد بدأت بالفعل خطوات عملية في هذا الاتجاه، حيث برزت كازاخستان كمنتج مهم، ووقعت أوزبكستان مذكرة تفاهم مع واشنطن في عام 2024 للتعاون في هذا المجال.
- الممرات التجارية البديلة: يمثل "الممر الأوسط" التجاري، الذي يربط المنطقة بأوروبا عبر بحر قزوين متجنباً الأراضي الروسية، حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية. ترى واشنطن في هذا الممر وسيلة لتقليل الاعتماد على المسارات التي تسيطر عليها روسيا وإيران، وتوفير منفذ حيوي لاقتصادات دول آسيا الوسطى الحبيسة، بما يعزز استقلاليتها الاقتصادية ويربطها بالأسواق العالمية.
ردود الفعل والتداعيات الإقليمية
لقي هذا النهج الأمريكي الجديد ترحيباً من حكومات دول آسيا الوسطى، التي تفضل التركيز على التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل بدلاً من الخضوع لضغوط سياسية تتعلق بالحكم وحقوق الإنسان. ويشبه هذا النموذج ما حدث في الشرق الأوسط مع "اتفاقيات إبراهيم"، حيث بُنيت التحالفات على أساس المصالح البراغماتية المشتركة لمواجهة تحديات إقليمية، بدلاً من التوافق الأيديولوجي. وعلى نحو غير متوقع، ساهم الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في تعزيز التكامل الإقليمي، حيث تراجع الصراع وفتحت آفاق جديدة لمشاريع بنية تحتية، مثل خطوط السكك الحديدية التي تربط آسيا الوسطى بجنوب آسيا عبر أفغانستان.
الأهمية والنظرة المستقبلية
يكتسب هذا التحول أهمية بالغة كونه يعكس إعادة تموضع استراتيجي للولايات المتحدة في قلب أوراسيا، ويؤشر على انتقال السياسة الخارجية الأمريكية نحو الواقعية السياسية في مواجهة التنافس الدولي. وينظر المحللون إلى أن نجاح هذه السياسة يعتمد على قدرة واشنطن على تحويل الوعود إلى مشاريع ملموسة. فبدلاً من التركيز على الخطابات، ينبغي أن تركز اجتماعات منصة "C5+1" على تحقيق نتائج عملية في قطاعات الطاقة المتجددة، وتعدين المعادن الحيوية، وتطوير ممرات النقل. ويعتبر تعزيز التكامل الإقليمي بين دول آسيا الوسطى نفسها الأداة الأكثر فعالية لتحقيق هذه الأهداف، وضمان صمود المنطقة وازدهارها كشريك حقيقي ومستقل على الساحة الدولية.




